اسم المستخدم: كلمة المرور: نسيت كلمة المرور



 

     
 
 
azim
التاريخ
2/25/2002 3:38:00 AM
  تداخل الاجراءات الجنائية مع قواعد القانون الادارى       

هذا البحث عبارة عن محاضرة كتبت لاغراض تقديمها على بعض المختصين فى هذا الفرع من ضروب المعرفة القانونية وهى على النحو التالى :
بسم الله الرحمن الرحيم

محاضـرة بعنـوان
تداخل قواعد الإجراءات الجنائية مع القانون الإداري

ليس بغريب ان تنص المادة 90/2 من دستور جمهورية السودان لسنة 1998م على عدم جواز إصدار مراسيم مؤقتة فى المسائل التى تمس الحريات والحرمات والأحكام الجنائية والحقوق الدسـتورية وذلك دون حاجة للرجوع للباب الثاني من ذات الدستور ليتسنى القول بحرمة الاعتقال وعدم جواز القيد للحرية بأي وجه أو غيرها من المسائل التي تنظمها موضوعات قانون الإجراءات الجنائية التي هى صميم الأحكام الجنائية المطلوب حمايتها وفقاً للدستور .
ولما كان كل من القانون الجنائي وقانون الإجراءات الجنائية يسهم اي منهما فى قيام الكيان العضوي للأحكام الجنائية ، ولما كان قـانون الإجراءات الجنائية هو الوسيلة الضرورية لتطبيق القانون الجنائي ونقله من حالة السكون الى حالة الحركة ، لذلك قيل لا مسئولية ولا عقوبة بغير دعوى جنائية . وبهذا الفهم يمكن القول انه لا يجوز الالتجاء للتنفيذ المباشر على المتهم ولو اعترف ما لم تكن هناك إجراءات تحدد كيفية الوصول لهذه العقوبة او التنفيذ .
وعلة ذلك ان سلطة الدولة فى العقاب تنطوي على مساس جسيم بحرية المتهم ، وهو ما لا يمكن إقراره ولا تحديده الا من خلال إجراءات معينة تكشف الحقيقة وتحدد القدر اللازم منها لتطبيقه. وإذا جاز لنا يمكن ان نعدد الارتباط بين كل من قانون الإجراءات الجنائية والقانون الجنائي فى الآتي:
1/ لا خلاف فى إن الغرض الأساسي من تشريع قانون الإجراءات الجنائية هو تحديد آلية وكيفية تطبيق القانون الجنائي . اى ان الأحكام الإجرائية الواردة فى قانون الإجراءات الجنائية لم تشرع أصلا إلا لأغراض تفعيل الأحكام الجنائية التي ينص عليها القانون الجنائي ، وفى هذا الصدد جاء تصريح المشرع فى نص المادة (3) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م بقوله : "تطبق أحكام هذا القانون على إجراءات الدعوى الجنائية والتحرى والضبط والمحاكمة والجزاء المتعلقة بالجرائم المنصوص عليها فى القانون الجنائي لسنة 1991 أو أي قانون آخر ، مع مراعاة أي إجراءات خاصة ينص عليها فى أي قانون آخر". من هذا النص يتضح ان دور الإجراءات الجنائية لا ينحصر فى القانون الجنائي فحسب وإنما قد يمتد ليشمل قواعد قانون الإجراءات الجنائية الواجبة التطبيق على النصوص العقابية الواردة فى القانون الجنائي وأي قـــوانين أخرى قد متضمنة نصوصا عقابية حتى وان لم يكن القصد من تشريعها تنظيم قواعد عقابية . فعلى سبيل المثال يجوز لمالك العلامة التجارية المسجلة والتي تم تقليدها ان يطلب فتح الدعوى الجنائية فى مواجهة المعتدى استنادا للمادة 27/6 من قانون العلامات التجارية لسنة 1969م بذات الطريقة التي يتم بها التماس قواعد الإجراءات الجنائية ومد أحكامها بشأن فتح الدعوى عن اى جريمة شأنه شأن القانون الجنائي لسنة 1991م .
2/ إن الإجراءات الجنائية المتعلقة بقيد الحرية كالضبط والقبض والتفتيش او حتى تنفيذ العقوبة إنما هى إما متعلقة بجريمة واردة فى القانون الجنائي 1991م ، أو جريمة واردة فى اى قانون آخر . وهذا الوضع يستدعى وبالضرورة أن تتم تلك الإجراءات فقط بما يتلاءم وطبيعة الجرم ولأغراض التحري والكشف عن الجريمة . وبهذا المفهوم فإن اى إخلال بتلك الأحكام يمنح المضرور ، وبالإضافة للمطالبة بالبطلان ، ان يحرك الدعوى الدستورية وفقاً لأحكام المواد 30-32 من دستور جمهورية السودان لسنة 1998م .
3/ إن مبدأ المشروعية كحق دستوري أساسه الإجراءات الجنائية . كما إن المبادئ الدستورية المتعلقة بالحقوق والحريات الأساسية إنما الهدف منها هو الحد من سلطان الدولة وأجهزتها ومنع تغولهما على الأفراد بأي طريقة تكشف عن استغلال الإجراءات .
4/ ليس بالضرورة ان يترتب على القواعد المضمنة فى قانون الإجراءات الجنائية القول بأنها مجرد إجراءات شكلية ، وإنما هناك تبرئة او مسئولية قد تترتب على قاعدة او قواعد إجرائية . بل ان فقهاء القانون الجنائي ذهبوا الى انطباق مبدأ القانون الأصلح للمتهم حتى فى الأحوال التي يكون فيها ذلك القانون وارداً فى مادة او نص إجرائي ، كما انهم ادرجوا قواعد الاثبات تحت هذه المظلة أيضا . فعلى سبيل المثال ان تقديم شخص للمحاكمة بموجب جريمة معينة قد يكون موقوفاً على الفترة الزمنية التى انقضت منذ وقوع الفعل المشكل للجريمة ، اى انه وبالرغم من ان الفعل قد يكون جريمة فى تاريخ وقوعه فقد لا يصلح للمحاكمة بشأنه بسبب ان الدعوى الجنائية قد انقضت فى تاريخ بدء الإجراءات الجنائية .
مما تقدم قصدنا ان نوضح وبصورة جلية ان الإجراءات الجنائية وموضوعاتها ليست بالمسالة البسيطة او العابرة . بل ان أساس الحريات والحقوق الأساسية مرتبط بهذا الركن من أركان القانون . لذا فإن كل التشريعات حرصت على تامين هذا الفرع ووضع الضمانات المتينة بالنسبة له وكلفت السلطة القضائية بل والدستورية توفير أسباب الحماية القضائية للشرعية الإجرائية .
إن قانون الإجراءات الجنائية الحالي لم يجعل للقضاء من دور فى التحـريات ، لدرجة أننا يمكن ان نذهب الى ان دور القضاء فى ظل قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م أصبح إشرافياً ومن الدرجة الثانية . ولعل هذه الحقيقة تتطلب من القضاء توسيع دائرة التفسير لنصوص قانون الإجراءات الجنائية 1991م وغيرها من المبادئ القانونية والدستورية لضمان إجراءات سليمة تتسق والقانون .
هذه الورقة محاولة متواضعة لدراسة الإرث التأريخى للإشراف القضائي على الإجراءات الجنائية مع تناول عام لفكرة النيابة الجنائية محاولين تحليل التجربة السودانية مع توصية لما نرى أنه هو الوضع الأنسب للعملية العدلية .
يحق القول إن كل سلطات تحريك الدعوى الجنائية التى تمارسها النيابة الجنائية اليوم كانت من اختصاص قاضي الجنايات وفقاً للمواد 111و121 من قوانين الإجراءات الجنائية لسنة 1899م ، 1925م ، 1974م و 1983م . وحيث ان القاضي كان هو الذى يباشر سلطة فتح الدعوى الجنائية والإشراف على التحرى وصولاً للمحاكمة والجزاء فقد هدف قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م النأى بالقضاء عن تلك المهام وحصر دوره فى المحاكمة العادلة . وبمقارنة هذين الوضعين يمكن إبداء الملاحظات الآتية :
1/ تعاقبت عدة قوانين تنظم مسألة الإجراءات الجنائية وخلالها كشفت التجربة عن كفاءة عالية للقضاء السودانى فى كل ما اوكل إليه من مهام فى التحرى والمحاكمة بل والطعن .
2/ الأجهزة العدلية المساعدة ، كالشرطة مثلاً ، ومن خلال إشراف القضاء المتمرس عليها أبرزت جوانب مشرقة فى الأداء من خلال العمل اللصيق بجانب السلطة القضائية .
3/ إن ممارسة العمل الجنائي لقاضى الجنايات سواء فى التحرى أو المحاكمة أفسح المجال أمامه ليعالج ما قد يمكن أن يحسب عليه كخطأ فى تحريك إجراءات غير مؤسسة أو شطب دعاوى هى أحرى
بالقبول . ومن ثم فان تقدير توفر البينة المبدئية الكفيلة بالسير لمواثبة الاتهام كانت من قبيل المسائل

البسيطة بالنسبة للقضاء . اى انه وفى الأحوال التي لم تكن تتكشف فيها الوقائع فى مرحلة التحرى أو تقديم الشكوى بالقدر الذى تتيحه المحاكمة ومواجهة الخصوم أمام القضاء فقد كشفت التجربة الطويلة لرجال القضاء عن وجود ارث وفقه فى تقدير الدعوى الجنائية التي تصلح للسير فيها من تلك التي لا أمل فيها . لذا فإن تقدير البينة المبدئية التى تؤسس عليها الدعوى الجنائية ثبت انه قد لا يتأتى حصوله من خلال تجربة لم تنصهر فيها فرصة سماع الشهود ومناقشتهم بواسطة الخصوم . ولعل هذه هى العلة التى جعلت القضاة أكثر تروى وأوسع خيالا فى قبول الدعوى الجنائية بالمقارنة مع تجربة النيابة اليوم التى هى فى حد ذاتها حديثة بالإضافة إلى حداثة من يقومون بتطبيقها .
4/ إضافة للتجربة العملية ، فقد أبرزت الحقبة التاريخية الطويلة والممتدة قرابة القرن إرثاً قانونياً أصبح بمثابة المرجعية والسند الذى تتوارثه الأجيال ، حيث أصبح من القواعد الراسخة مثلا أن واقعة ارتداد الصك لعدم كفاية الرصيد تعد من قبيل البينة المبدئية التى تكفى لتحريك الدعوى الجنائية على ان يترك تقدير وجود المقابل للقاضى الذى يباشر المحاكمة - أنظر على سبيل المثال قضية حكومة السودان ضد أسطفانوس صفا صديق2. ولعل هذا المبدأ هو ما كانت قد انتهت اليه المحكمة العليا بموجب أحكامها الصادرة حديثاً .
وبمقارنة هذا الوضع مع التجربة السائدة الآن نجد انعدام المرجعية الفقهية لدى النيابة الجنائية حيث نجدها قد تذبذبت فى قبول ذات المبدأ كما يظهر ذلك فى قرار السيد وكيـل وزارة العدل حيث قضي الأخير بشطب الدعوى الجنائية مبررا قراره على فشل الشاكي فى إثبات أن للشيك مقابل ، بالرغم من ثبوت واقعة ارتداد الصك لعدم كفاية الرصيد بالنسبة للنيابة الجنائية .
5/ فى ظل توفير الضمانات التي تنادى بها هذا الورقة ، فانه ليس هناك من غبار من تبنى وتطوير وتعديل الفكرة التي تترتب على قبول مبدأ النيابة الجنائية والتي من المتصور ان تخلق نواة عدلية جديدة يبلور منها الفقه القانوني السوداني تجربة رائدة ورشيدة .
ظهور فكرة النيابة الجنائية فى القانون السودانى :
قد لا يكون كافيا القول بان فكرة النيابة الجنائية ظهرت فى الإرث الجنائي السوداني من خلال تدخل النائب العام فى الاجراءات الجنائية بحجة وقف المحاكمة لأسباب ترى النيابة الجـــــنائية ، ولأغراض المصلحة العامة ، ان من الاصلح عدم موالاة المحاكمة الجنائية .
بل حتى فكرة تدخل النائب العام لوقف الإجراءات كان ظهورها ولأول مرة بموجب الأمر التشريعي رقم 5 لسنة 1940، وتوالى العمل بموجب القاعدة التى عرفت باسم سلطة النائب العام فى وقف الاجراءات او ما يصطلح لها باللغة الإنجليزية Nolle prosequi حتى يومنا هذا .
ويرى البعض ان فكرة النيابة الجنائية قديمة فى القانون السودانى وذلك عندما أنشئت لأول مرة وظيفة المحامى العام فى عام 1904م . وفى تقديرنا ان الحقبتين لم تكشفا عن وجود للنيابة الجنائية فى التحرى ، إذ ان دور النيابة كان قاصرا وبصورة قاطعة فى ظل سيادة القوانين التى نهلت من مدرسة القانون الإنجليزي . ولعل اصدق ما قيل ، تأييدا لهذا الرأي ، ما صدر عن وزارة العدل نفسها عندما تناولت قيام إدارة المدعى العام فى 1962م وإنشاء عدد من النيابات بكل من الخرطوم وودمدنى والابيض والبحر الأحمر . وجاء على حد ما ذهبت اليه وزارة العدل : "وكانت مهام هذه المكاتب قاصرة على مساعدة الشرطة فى تقييم البينات وتحديد مواد الاتهام وتولى الاتهام أمام المحاكم بالنسبة لجرائم القتل والجرائم المرتكبة ضد الدولة ، بالإضافة الى تقديم النصح والمشورة لأجهزة الدولة فى نطاق دائرة الاختصاص ومعاونة السلطات المحلية فى حل النزاعات المدنية. "
وفى تقديرنا ، ان سلطة النائب العام فى وقف الاجراءات هى سلطة قاصرة بالنظر لمفهوم الدعوى الجنائية . اذ ان هذه السلطة لم تكن حصانة كافية للجهات التى لا يرغب النائب العام فى تحريك الاجراءات ضدها . حيث كان يملك فقط ، فى ظل الوضع السابق ، حق مخاطبة المحكمة المختصة بوقف اجراءات الاتهام ولكن ليس له الحق ، بأي حال ، فى قفل الطريق امام تحريك الإجراءات الجنائية ابتداء .
ويبدو ان هذا الوضع ، فى ظل العقلية السياسية والتشريعية التي كانت سائدة آنذاك ، لم يكن كافيا لاغراض منح النيابة الجنائية دورها فى تحريك الاجراءات الجنائية وتولى الاختصاص بفتح الدعوى الجنائية إبان تولى القضاء لهذه المهمة . وهكذا تدريجيا ، بدأت ولأول مرة تظهر سلطات للنائب العام فى التحرى وبالأخص فى الأحوال المتعلقة بالاعتقال والتحرى والإبلاغ عن الجريمة عند صدور القانون رقم 33 لسنة 1972م ، بل ان ذات القاعدة ظهرت مرة أخرى عند صدور قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1974م تحت المادة 122/هـ والتي تحدث عنها د. محمد محي الدين عوض بقوله : "ليس لها مقابل فى القانون القديم وأدخلت لأول مرة تحت هذا الرقم فى القانون السابق بالقانون رقم 33 لسنة 1972م . أسندت هذه المادة سلطة التحري الى النائب العام او من يمثله من مرءوسيه من القانونيين (المدعى العام او أحد ممثليه) بعد أن كان محروما من هذه السلطة فى ظل القانون السابق حتى سنة 1972م"
واستطرد د. محمد محي الدين عوض معلقا : "يلاحظ ان للنائب العام او من يفوضه حق التحري بناء على علمه او بناء على بلاغ . ومتى بدأ تحرياته فلا يجوز لقاض او رجل شرطة ان يمارس التحريات فى الواقعة ابتداء او يستمر فى تحرياته فى نفس الواقعة دون موافقة مسبقة من النائب العام على انه اذا طلب النائب العام او من يفوضه مساعدة ضابط الشرطة فى التحري فيجب على هذا الأخير تقديمها."
وفى تقديرنا ان هذه المادة وغيرها لم تكشف عن دور حقيقي وجدية للنيابة الجنائية فى التماس تطبيقها كما يظهر ذلك من قضاء المحكمة العليا فى قضية حكومة السودان ضد محمود التجانى عبد الله وآخرين .
غير ان رغبة النيابة الجنائية فى تولى التحري قد بدأت تتزايد كما يظهر ذلك من قانون النائب العام لسنة 1981م وفقا لنص المادة 6/2 منه . ولعل ابلغ ما قيل فى هذا القانون الجديد ما أورده القاضى العالم محمد الفضل شوقى فى قضية حكومة السودان ضد ميرغنى جعفر حضرة وآخرين ما يلى : "...ان الموضوع فى رأيى مختصر ومحصور وهو لا يتعدى نطاق شرح الفكرة المستحدثة التى جاء بها أخيرا قانون النائب العام لسنة 1981م . والتطبيق الصحيح له ، وإزالة اللبس الذى حدث نتيجة لعدم علم قاضى الجنايات المختص بهذا القانون وما صحبه من تغيير فى الاجراءات الجنائية . بالاطلاع على هذا القانون يتضح بجلاء ان المشرع أراد به فى ناحية الاختصاص الجنائي ان يزيل عن كاهل قضاة الجنايات عبء الأشراف على التحريات وان يوكل هذه المهمة لوكيل النيابة وحده حتى يعود القاضى الى وضعه الأصيل ويتفرغ كليا لمهمته الكبرى الأساسية وهى الحكم بين وجهتي النظر المعروضتين عليه عندما يجلس فى منصحه ويستمع للبينات ثم يصدر قراره على ضوء ما يثبت أمامه من وقائع وحقائق وفقا لقواعد الاثبات بدون تحيز لأي من طرفي الدعوى . أراد المشرع بهذا القانون ان يضع الأمور فى نصابها مقتديا بالوضع فى القانون المصري حيث تتولى النيابة كافة جوانب التحرى وتحضير قضية الاتهام فى استقلال ...."
ومنذ ذلك التاريخ ، وفى ظل الأوضاع السياسية التى كانت سائدة ، ظلت النيابة الجنائية تطالب بما يسمح لها اكتساب الأرض تلو الأخرى سواء فى التحريات او تحريك الدعوى او الاعتقال . بل انه حتى سلطة النائب العام فى وقف الاجراءات بدأت تتسع دائرة اللجوء إليها خلافا للقاعدة التى شرعت من اجلها .
فى غمرة هذه الأحداث تطورت فكرة النيابة الجنائية فى السودان فى ظروف لم يكن من الواضح ما اذا كان الهدف من ورائها هو تمكين القضاء من ممارسة اختصاصه بشأن محضر المحاكمة فحسب ؟ أم تمكين السلطة التنفيذية فى استغلال السلطات الممنوحة بموجب قانون الإجراءات الجنائية تحت مظلة الشرعية القانونية ؟ .
وفى تطور جديد لوحظ ان النيابة الجنائية ، لم تكتف بهذا القدر من السلطات ، فأخذت تنادى بتحصين قراراتها من الفحص القضائي والمناداة بان قراراتها وحتى المتعلقة بالحقوق الخاصة والحريات الأساسية لا تخضع للرقابة القضائية . غير ان الإرث القانوني التليد للقضاء السودانى ، ومنذ أمد بعـيد ، كان قد تبنى قاعدة واضحة مؤداها ان اى قرارات سواء كانت قضائية او شبه قضائية او إدارية فإنها تخضع للرقابة القضائية متى كانت تلك القرارات ذات أثر على حقوق ومصالح الأفراد او مخالفة للقانون او صدرت من عديم الاختصاص او شابها سوء فى استعمال السلطة . انظر فى هذا الصدد :
1/ حكومة السودان ضد زهراء آدم عمر

2/ حكومة السودان ضد احمد إسماعيل يوسف
3/ الهيئة المركزية للكهرباء والمياه ضد محمد حامد أحمد وقد أرست هذه القضية المبدأ القائل "يجوز للمحاكم أن تتدخل لمراجعة قرارات الهيئات الإدارية سواء كانت سلطاتها إدارية أو قضائية أو شبه قضائية طالما كانت القرارات ذات أثر على حقوق ومصالح الأفراد أو كانت القرارات خارج اختصاص الهيئة التي أصدرتها أو أن الهيئة لم تتبع في إصدارها قواعد العدالة الطبيعية." .
غير ان هذا الوضع وفى سياق قانون الاجراءات الجنائية ابرز سؤالا هاماً وهو : هل قرارات النيابة الجنائية فى سياق تنفيذها لسلطاتها فى التحري بموجب قانون الإجراءات الجنائية هى قرارات إدارية ؟ فى تقديرنا ان الإجابة هى الإيجاب وذلك للآتي :
اولا : ان وصف القرار بأنه إداري او قضائي او شبه قضائي هو وصف لا جدوى منه اذ ان القاعدة العامة هى ان اى قرار مهما كانت المظلة او الجهة التى تصدره فانه يخضع لقاعدة مؤداها "السند القانوني" . فإذا إنعدم السند القانوني للقرار فانه يخضع للفحص والمراجعة القانونية ولعل هذا المبدأ كانت قد تبنته محاكمنا منذ امد بعيد كما يظهر من السوابق المشار اليها وقضاء المحكمة العليا مؤخرا كما فى قضية محمد احمد على ضد النائب العام وقد جاء على لسان القاضي العالم محمد محمود ابوقصيصة : "وفوق ذلك كله فان التفريق بين القرار الإداري والقرار شبه القضائي أضحى وفق الاتجاهات الحديثة تفريقا لا يخدم كبير غرض بل تشكك المحدثون في صحته ويرى غيرهم انه اصبح في ذمة التاريخ ………. وواقع الأمر ان أي قرار تتخذه أي جهة إدارية ممارسة لسلطاتها هو قرار يخضع لرقابة القضاء وتلك هى الوسيلة الوحيدة للتحقق من ان تلك الجهة تمارس سلطاتها وفق القانون ووفق نصوص التشريع المعين الذى منحها تلك السلطات وللتحقق من ان تلك الجهة لم تتجاوز سلطاتها ."
ثانيا : ان النائب العام ووفقا للمواد 4 و 5 من قانون تنظيم وزارة العدل 1983م تعديل 1996 فانه وبحكم منصبه وزير ، وهو بهذا الوصف ، يتولى مهام المستشار القانوني للدولة . اى انه جهاز من أجهزة السلطة التنفيذية ويحضر اجتماعات مجلس الوزراء بتلك الصفة وبحكم منصبه الذى نص عليه قانون إنشائه .
ثالثا : لقد تسائل القضاء السوداني كثيرا عن المقولة التى تذهب الى ان السلطات التى تمارسها النيابة الجنائية بموجب قانون الإجراءات الجنائية هى سلطات قضائية ؟ ولكن وبكل أسف لم تسعف النيابة الجنائية نفسها بما يرد على هذا التساؤل . ففي قضية خضر محمد نور ضد حكومة السودان وزارة العدل جاء على لسان القاضي العالم محمد سعيد بابكر خوجلى على صفحة "4 ":-
"لقد رأينا التصدي أولا لبعض الدفوع القانونية الخاصة بأن للسيد وزير العدل ووكيل النيابة سلطات قضائية يمارسها وفق قانون الإجراءات الجنائية . هذا الدفع غريب ولم نجد له نص يسنده في قانون الإجراءات الجنائية وقد فشل السيد وزير العدل في الإشارة إلى النص الذي يمنحه هذا الاختصاص . وعلى كل فإن قضاء المحكمة العليا قد استقر أن قرار السيد وزير العدل إذا كان مخالفا للقانون خضع لرقابة القضاء أنظر تفسير المادة 58 قانون الإجراءات الجنائية 1991م ,م ع/ق د/1/1994م وجاء حكم المحكمة العليا دائرة الولاية الوسطى م ع/ ف ج/145 /1995م حكومة السودان ضد أبو القاسم الأمين عبد الله . خلاصة الأمر أن المحاكم ليست مختصة بمراجعة قرار النائب العام الصادر بإغلاق الدعوى الجنائية وتوجيه الأطراف للطريق المدني حيث إنه استوفى شروطه وجاء صحيحاً . وعليه فقد استقر قضاء المحكمة العليا على توفر بعض الشروط حتى يكون قرار النائب العام بشطب الدعوى الجنائية بمنأى عن رقابة القضاء وهذه الشروط هي استبعاد الشروط القانونية وأن يكون القرار مسبباً وأن يكون صحيحاً ."
رابعا : ان المادة 58 من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م تنص على :
1/ يجوز للنائب العام ، فى اى وقت بعد اكتمال التحري ، وقبل صدور الحكم الابتدائي فى الدعوى الجنائية ، ان يتخذ قرارا مسببا بتوقيعه بوقف الدعوى الجنائية ضد اى متهم ، ويكون قراره نهائيا ولا يجوز الطعن فيه ، وعلى المحكمة عندئذ ان توقف الإجراءات وتصدر الأوامر اللازمة لإنهاء الدعوى الجنائية .
2/ لا يجوز صدور قرار وفق البند (1) فى الدعوى الجنائية المتعلقة بجرائم الحدود والقصاص او الجرائم التي يجوز فيها التنازل الخاص عن الدعوى الجنائية .
3/ يجوز للنائب العام ، او من يمثله ، ان يطلب الاطلاع على محضر المحاكمة للنظر فى ممارسة سلطته فى وقف الدعوى الجنائية ، وعلى المحكمة عندئذ ان توقف السير فى المحاكمة الى حين صدور قرار النائب العام .
فى ضوء هذه المادة يمكن ان نذهب لتقرير الآتي :
أ/ ان خير تفسير لهذه المادة هو ما تبنته المحكمة العليا فى طلب التفسير المقدم من النائب العام .
ب/ بالرغم من بروز آراء مختلفة فى تلك السابقة الا ان ما ذهبت اليه الأغلبية بالدائرة الدستورية يكاد يكون هو التفسير المنطقي والمقبول فى ظل القراءة الجديدة التي استحدثها قانون الإجراءات الجنائية 1991م لسلطة النائب العام فى وقف الإجراءات .
ج/ ان هذه المادة ، وما تفتحه من أبواب حول مراجعة للشكل او الاختصاص او النظر لتوقيت توجيه الطلب من النائب العام ، هى المدخل الرئيسي للنظر فى فحص ومراجعة الطلبات الأخرى
الصادرة من النيابة الجنائية . اى إننا اذا قبلنا فحص ومراجعة سلطة النائب العام ومن ثم رفضنا طلبه
فى وقف الدعوى الجنائية فى جريمة من جرائم الحدود او الجرائم المتعلقة بالحق الخاص وذلك لعدم صحة الطلب شكلا ، فما المانع من منح الاختصاص للمحكمة فى مراجعة قرار النيابة الجنائية القاضي برفض فتح الدعوى الجنائية بالرغم من قيام كل الشواهد التي تستدعى تحريكها والسير فيها؟ خاصة وانه ان قرار النيابة الجنائية فى رفض فتح الدعوى كان من الواضح انه متعسف ومبني على انحياز للمتهم .
د/ بالرجوع لقضاء المحكمة العليا فى طلب التفسير المشار اليه ، وبكل تواضع ، أرى ان اختلف مع صاحب الرأي المخالف الذى ذهب الى إطلاق سلطة المحكمة فى تمحيص الأسباب التي استند عليها النائب العام فى وقف الإجراءات . وفى تقديرنا ان صياغة النص بطريقته الجديدة لا يسمح للمحكمة بمراجعة الأسباب التي استند إليها النائب العام . فى ضوء ذلك ، ولما كان المشرع ، وضمن قانون الإجراءات الجنائية 1991م ، قد حدد الجرائم التي يجوز فيها إعمال هذه المادة بطريقة واضحة اكثر من الطريقة المعممة التي نصت عليها القوانين الإجرائية التي سبقت هذا القانون فان التسبيب ليس من المتصور ، او بالضرورة ، ان يكون مقنعا لقاضى الجنايات بدليل ان المشرع استخدم عبارة "ويكون قراره نهائيا ولا يجوز الطعن فيه" .
هـ/ بالإضافة للرأي المخالف فى حكم المحكمة العليا المشار اليه كانت هناك أيضا مـذكرة إضافية. فبالنسبة لما ذهب اليه صاحب هذه المذكرة الإضافية فان سلطة المحكمة فى فحص قرارات النائب العام وقوله ان تلك السلطة للمحاكم هى سلطة أصيلة سواء كان تصنيف تلك القرارات بوصفها قرارات إدارية او شبه قضائية فانه لا خلاف مع صاحب هذه المذكرة فى هذا المبدأ . غير ان سعادة القاضي العالم ، صاحب هذه المذكرة الإضافية ، جعل سلطة المحكمة فى فحص ومراجعة قرارات النائب العام تكون بالاستناد للمادة 188 من قانون الإجراءات الجنائية 1991م . وفى تقــديرنا ، وحيث ان نص هذه المادة المانحة لسلطة الفحــص لم ترد فى سياق السلطة الأصيلة للمحكمة العليا فى فحص قرارات النائب العام المشار إليها ضمن المادة 58/1 من قانون الإجراءات الجنائية 1991م ، فان الوضع المتصور للنظر فى التسبيب ، حتى على فرض قبوله ، من المتوقع ان تمارسه محكمة أول درجة وليس المحكمة العليا والتي لا يتصور ان تعرض أمامها الأوراق بموجب المادة 188 من قانون الإجراءات الجنائية الا بعد اتخاذ قاضى الجنايات للتدبير الذى يراه مناسبا . من ناحية أخرى ان الطعن أمام المحكمة العليا فى قرارات النائب العام عند مخالفة الأخير لسلطاته بموجب المادة 58/1 هو اختصاص أصيل لقاضى المحكمة العليا بموجب المادة 20/1 من قانون القضاء الدستوري والإداري 1996م . وذلك دون حاجة الى التماس نص المادة 188 من قانون الإجراءات الجنائية 1991م على الوجه الذى فصلناه .
و/ قبل مبارحة هذه النقطة نرى ان المشرع وبموجب المادة 58/3 قصد ان يسلب النائب العام حق وقف الدعوى الجنائية المتعلقة بجرائم الحدود او تلك التي يجوز فيها التنازل الخاص . اى ان ممارسة
النائب العام لسلطته فى وقف الإجراءات قصد منها نوع معين من الجرائم . وبهذا الفهم فان عبارة "وغير قابل للطعن" يكون من الجائز قبولها فقط فيما يتعلق بتسبيب النائب العام لطلبه فى وقف الإجراءات ومن ثم حرمان المحاكم من ممارسة المراجعة القضائية بشأن التسبيب الذى يسوقه النائب العام.
خامسا : اذا عدنا مرة أخرى الى تصنيف القرارات الخاضعة للطعن ، سواء كانت صادرة من سلطة إدارية بموجب اى قانون آخر او بموجب قانون الإجراءات الجنائية ، فان المرجعية لتحديد قابلية تلك القرارات للطعن من عدمها تتحدد وفقا للتعريف العام للقرار الإداري . وحيث ان القرار الإداري وفقاً لتعريف الفقه والقضاء قد ذهب الى ما انتهى اليه تعريف المشرع السوداني للقرار الإداري بموجب المادة 2 من قانون القضاء الإداري والدستوري لسنة 1996م بقوله : " القرار الإداري يقصد به القرار الذى تصدره جهة إدارية بوصفها سلطة عامة بقصد إحداث أثر قانوني معين يتعلق بحق أو واجب أي شخص أو أشخاص ويشمل رفض السلطة الإدارية أو امتناعها عن اتخاذ قرار كانت ملزمة قانوناً باتخاذه ." . وفى ظل هذا الوضع ، وفى تقديرنا ، ليس هناك ما يجعل قانون الاجراءات الجنائية لسنة 1991م او الأوامر الصادرة بموجبه تكون تحت مظلة خارج إطار عبارة "قانوناً" الواردة فى تعريف القرار الإداري وكذلك عبارة "قانون" الواردة فى المادة 4 من قانون تفسير القوانين والنصوص العامة لسنة 1974م .
سادساً : ان القرار الإداري وفقا لمفهومه فى القانون الإداري ليس بالضرورة ان يكون صادرا من جهة إدارية فيها مصطلح مدير او مديرية او اى من مشتقات "الإدارة" حتى نطلق عليه تعريف "قرار إداري" ، فقد يكون صادر من جهة قضائية او شبه قضائية او إدارية . فالعبرة فى نسبة وصف "إداري" إنما هى اصطلاح قصد به تعريف "فعل" معين وليس "كيان" . وعلى ضوء هذه القاعدة فان القاضى وهو يباشر اى أعمال موكلة اليه بموجب اى قانون وطالما انه منعقد بخلاف صفته كقاضى او محكمة فان القرارات التي يصدرها لا تخرج عن وصف القرار الإداري . ولعل من الحالات التي قبل فيها تولى القضاء لأعمال خلاف الفصل القضائي أعمال ضباط التسوية وفقا لقانون تسوية الأراضي وتسجيلها لسنة 1925م وكذلك تولى القاضي لسلطات وكيل النيابة وفقا للمادة 7/2/د من قانون الاجراءات الجنائية لسنة 1991م . وغنى عن البيان ان القاضى فى حالة قيامه بأي مهام وفقا للقانونين المذكورين فانه لا تكون للقرارات الصادرة منه قرارات قضائية بالمفهوم الصريح للأحكام الصادرة بموجب قانون الاجراءات الجنائية او قانون الاجراءات المدنية . ولعل هذا المبدأ هو ما انتهت اليه محكمة الاستئناف فى قضية موسى عبد الله وآخرين ضد أهالي جزيرة كومي حيث قرر القاضى العالم زكى عبد الرحمن : "وهنا فان ضابط التسوية ورغم طريقة تعيينه التي تضفي عليه كثيرا من الآثار القضائية ورغم ان عليه ان يتبع الاجراءات التي تطبق فى المحاكم العادية ، (انظر المادة 15/3 ) - ويبدو انه يقصد المادة 15/3 من قانون تسوية الأراضي وتسجيلها 1925م - ورغم ان قراره قابل للاستئناف لقاضى المديرية ويأخذ فى ذلك حكم ما يصدر عن القاضى الجزئي من حكم ، الا ان ضابط التسوية ليس (قاضيا) بالمعنى الذى يشير اليه قانون الاجراءات المدنية حتى لو سمى كذلك (كما هو الحال فعلا) وحتى لو ان تكليف السيد/ رئيس المحكمة العليا بموجب المادة 5 كان لأحد القضاة . ذلك لان القاضى هو من يعين بموجب قانون الهيئة القضائية ولو بصفة مؤقتة وما دام يتمتع بولاية القضاء . اما من يعين بمهمة تشابه مهام القـاضي ، وهى فى جوهرها التقرير فى حقوق متنازع عليها فانه لا يكون (قاضيا) …" .
سابعا : فى ضوء هذه القاعدة نرى ان ما انتهت اليه المحكمة العليا مؤخرا فى قضية وزير العدل ضد إنعام محمد على عند تفسيرها لنص المادة 7/2/د من قانون الإجراءات الجنائية 1991م وقولها ان القاضي وهو يمارس سلطات وكيل النيابة فى حالة غياب الأخير هو قرار قضائي هو تفسير غير سليم وذلك للآتي :-
1/ أوضحنا فى سادسا اعلاه متى يكتسب قرار القاضي صفة الحكم ومتى يزول ذلك عنه ذلك الوصف .
2/ هناك حجة أوردها سعادة القاضي العالم محي الدين سيد طاهر وتذهب الى ان قانون الإجراءات الجنائية 1991م لم ينص على فحص القضاء لأعمال النيابة الا بموجب المادة 21/3 من هذا القانون. وفى تقديرنا ، ان هذا النص المانح لمحكمة الاستئناف سلطة فحص قرارات حجز الأموال لم يكن على سبيل الحصر لسلطان القضاء فى فحص القرارات التي تخالف القانون . كما ان سلطان القضاء فى مراجعة أعمال الإدارة أصلا لم يكن من المقبول حصره وتأطيره فى ظل قانون معين وإنما هى سلطة طبيعية استمدت وجودها من مدى مخالفة الأوامر والتدابير لحكم القانون بغض النظر عن الجهة التي أصدرتها ما لم يكن هناك نص صريح يسلب الاختصاص .
3/ من جملة الأسباب التي ساقتها دائرة المحكمة العليا التي تذهب الى عدم إدارية قرارات النيابة الجنائية ، ان تلك الدائرة أيدت وجهة نظرها بالاستناد الى خلو قواعد الطعن والاستئناف الواردة فى قانون الإجراءات الجنائية 1991م من اى إشارة الى طرق استئناف قرارات النيابة الجنائية بواسطة المحاكم . وفى تقديرنا ان هذه المقولة هى حجة على هذه الدائرة وليست لمصلحتها لأنها تناهض المبدأ الذى اتكأت عليه عند الإشارة للمادة 21/3 من قانون الإجــراءات الجنائية 1991م ، إذ ان ذات الفصل المتعلق بأحكام الاستئناف والطعن قد خلا عن الإشارة لسلطات محكمة الاستئناف فى النظر بالاستئناف ضد قرارات النيابة الجنائية فى حجز الأموال . الأمر الذى يكشف ان سلطات الفحص والاستئناف والطعن الواردة فى الفصل السابع من قانون الإجراءات الجنائية 1991م قصد بها تنظيم التدابير الصادرة أثناء المحاكمة الجنائية وليس استئناف التدابير الصادرة من النيابة الجنائية أثناء مرحلة التحري .
4/ ان قواعد الفحص القضائي وسلطان المحاكم فى مدى الالتزام بالقانون لم يكن فى يوم من الأيام منصوص عليه فى قانون بعينه . وإنما هو ارث تاريخي وضمانة لحقوق وحريات الأفراد أبرزها تطور القانون الإداري والدستوري ، بوصفها قوانين عامة ، للكشف عن مدى التزام أجهزة الدولة بحكم القانون .
5/ أصحاب الرأي الذين يؤيدون عدم إدارية قرارات النيابة ذهبوا الى ان ما تصدره النيابة الجنائية من أوامر بموجب سلطاتها الواردة فى قانون الإجراءات الجنائية هى أحكام قضائية . ولعل ما استأنس به القاضي العالم محي الدين سيد الطاهر بالإشارة للمادة 37/2 من قانون الإجراءات الجنائية 1991م هو حجة عليه أيضا وتعضيد لوجهة النظر التي تبرر القول بإدارية قرارات النيابة الجنائية إذ ان النيابة تعوزها المقدرة على سماع الأطراف ومواجهة الخصوم . وحيث ان إعمال مبدأ الحجية يتطلب مثل هذه الإجراءات ، فانه لا يجوز وصف تدابير النيابة بأنها أعمال قضائية بدليل ان النيابة نفسها يجوز لها ان ترجع من قرار شطب الإجراءات وتقرر فتح الدعوى الجنائية مرة أخرى .
فى ضوء هذا التحليل يمكن ان نذهب الى القول ان قضاء هذه الدائرة جاء مخالف لما انتهت اليه المحكمة العليا نفسها فى حكمها الواضح والصادر فى قضية وكيل وزارة العدل وآخر ضد شركة جميل كبابه وأولاده المحدودة والذي قررت فيه ان قرار النيابة الجنائية لا يخرج عن التعريف الذى يمنحه صبغة الطابع الإداري مما يتعين إلغاؤه متى انطوى على مخالفة للقانون .
ثامنا : فى ضوء هذه الشواهد فان من الحالات المتصور وقوعها فى سياق التحري والتي يكون من الواجب ان تخضع فيها إجراءات التحري للرقابة القضائية هى :
1/ رفض النيابة الجنائية لفتح الدعوى الجنائية بالرغم من قيام البينة المبدئية التي تبرر إحالة الدعوى الجنائية للمحاكمة .
2/ إصرار النيابة الجنائية على السير فى إجراءات الدعوى الجنائية وتقديم المتهم للمحاكمة بالرغم من انعدام اى مبرر لذلك .
لا شك ان النيابة الجنائية فى كل من المثالين اعلاه تكون قد تعسفت فى استعمال سلطاتها بموجب قانون الإجراءات الجنائية مما يكون معه من واجب القضاء ان يتدخل لمنع سوء استغلال الإجراءات.
تاسعا : قانون الإجراءات الجنائية 1991م تعديل سنة 2002م ، والذي أقحم الشرطة ككيان جديد فى مسيرة تحريك الإجراءات الجنائية سيخلق حالة من التساؤل عن الجهة التي سيتم التظلم لديها بشأن قرارات الشرطة استنفاذاً للطرق المتاحة قانوناً قبل رفع الطعن . وفى ذات الـــوقت ، فان هذا الوضع الجديد سيجعل النيابة والشرطة اقرب للظهور فى حالة خصوم أمام المحكمة الإدارية المختصة للفصل فى التدابير المنسوبة لأي منهما والمتعلقة بالدعوى الجنائية للتأكد من مدى اتساقها وصحيح القانون .
عاشرا : من كل ذلك ، يمكن ان نخلص الى قاعدة عامة مؤداها ان سيادة حكم القانون تذهب الى إخضاع اى قرار قضائي او شبه قضائي او إداري للمراجعة القضائية للتأكد من سلامة الاجراءات . بل ان هذا المبدأ كان من أهم نتائجه ان خضعت حتى القرارات القضائية لنظام وتدرج هرمي محدد اصبح بموجبه لأي فرد ان يستأنف حتى القرارات القضائية متى خالفت القانون . لقد كان الوضع السائد فى الماضي ان تدابير قاضى الجنايات وفى الأحوال التي يقضى فيها بشطب الدعوى الجنائية فى مرحلة التحري ان تخضع تلك الأوامر للاستئناف أمام السلطة القضائية المختصة . فإذا كانت القرارات القضائية نفسها تخضع للرقابة ، فلماذا تكون غيرها من القرارات فى مأمن من الرقابة القضائية ؟
فى خاتمة هذا الجهد المتواضع ، نرى ان الطبيعة التي رسمها المشرع بموجب قانون الاجراءات الجنائية لسنة 1991م تجعل من الضرورى مناقشة دور القضاء فى الرقابة على التحرى عن طريق سلطة الفحص القضائي والمراجعة لأعمال النيابة الجنائية وذلك فى مراحلها المختلفة ابتداء من فتح الدعوى مرورا بالقبض والضبط الجنائي انتهاء بتوجيه التهمة . وفى ظل التعديل الجديد الذى أصدره رئيس الجمهورية بموجب التعديل الصادر فى 22/1/2002م فإننا نرى ان كل القرارات الصادرة فى مرحلة التحري سواء كانت مصدرها الشرطة او النيابة يجب ان تكون خاضعة للفحص والمراجعة القضائي للتيقين من مدى انطباقها مع القانون .
لا نكون مغالين اذا ذهبنا للقول بضرورة التنبيه الى غرابة النظرية التي ينطوي عليها قانون الاجراءات الجنائية لسنة 1991م كما صدر او بما استحدثت او اقترحت عليه من تعديلات . وذلك لان النظرية التي يتبناها هذا التشريع والجهة التي تم استيراده منها تختلف عن نظامنا القانوني الذى كان معمولاً به فى السودان . فقرار رئيس جمهورية مصر العربية بالقانون رقم 46 لسنة 1972م بشأن إنشاء السلطة القضائية المصرية يختلف شكلا ومضمونا عن نظام السلطة القضائية السودانية . فبينما يتبع القاضى فى السودان الى سلطة مستقلة هى السلطة القضائية التي يرأسها رئيس القضاء . ففي ظل النظام المصري تكون السلطة القضائية تحت مظلة وزير العدل والذي يتبع له النائب العام أيضا ويحكم كل من النائب العام والقضاة القانون المشار اليه .
وبهذا التصور الذى سقناه يكون لا مناص للقضاء من الاضطلاع بدوره فى التأكد من سلامة التحري ومدى التزام الشرطة والنيابة الجنائية فى اتباع القانون . فى رأينا ان ذلك لا يتأتى الا عن طريق فتح الطريق واسعا أمام المحكمة الإدارية المختصة للتقرير فى مدى التزام الشرطة والنيابة الجنائية بإجراءات فتح الدعوى الجنائية فى شكل متسق مع إجراءات الضبط ، القبض والتفتيش وفقا للشرعية الإجرائية التي يقررها قانون الإجراءات الجنائية 1991م والمبادئ الإجرائية التي استقرت قضاء فى السودان .
بنظرة عابرة للأحكام الواردة في قانون الإجراءات الجنائية 1991م ، قد يبدو وكأنه قصد بها حرمان مراجعة القضاء للأوامر والتدابير الصادرة من النيابة الجنائية . بيد ان الروح العامة للتشريعات الجنائية وقواعد القانون الإداري والدستوري بالإضافة للموروث القضائي تجعل من الضروري بقاء الواقع السائد الآن وذلك حتى يتسنى للسلطة المختصة المراجعة القضائية لكل ما يتصل بحقوق وحريات المواطنين . من ناحية أخرى ان بقاء هذه القاعدة يجعل المؤسسات العدلية اكثر التزاما بالقانون إذ أنها ستدير بالها دائما لوجود جهة تقوم بدورها فى الرقابة القضائية .

عبد العظيم حسن عبد الرحمن
الخرطوم - يناير 2002م
مراجع البحث

1/ الوسيط فى قانون الإجراءات الجنائية – أحمد فتحي سرور – الطبعة السابعة ، دار النهضة العربية 1996م الصفحات 9 -10 بتصرف .
2/ "مشكلات السياسة العقابية فى السودان" ، للقاضى احمد محمد عثمان قاضى ، المنشور فى (1990) مجلة الأحكام القضائية ، ص 199 .
3/ د. الصديق عبد الباقي ، المسئولية عن الشيك فى القانون والعرف المصرفي ، الطبــــعة الأولى ، ص 122 .
4/ موسوعة الإجراءات الجنائية ، للقاضى عوض الحسن النور ، طبعة دار جامعة أمدرمان الإسـلامية ، ص 74 .
5/ وزارة العدل فى مائة عام 1899 – 1999م مطابع السودان للعملة المحدودة صفحة 8 .
6/ مبادئ القانون الإداري السودانى ، الطبعة الثانية ، للقاضى محمد محمود أبو قصيصة الطبعة الثانية ، مطبعة السلطة القضائية 1999م .
7/ النظرية العامة للمسئولية الجنائية د. عبد الله احمد النعيم ، الطبعة الأولى ، مطبعة الحــرية أمدرمان ، 1986 .
8/ قانون الإجراءات الجنائية السوداني معلقا عليه ، للدكتور محمد محي الدين عوض ، مطبعة جامعة القاهرة والكتاب الجامعي الطبعة الثانية 1980م .
9/ (1978) مجلة الأحكام القضائية ، ص 369 .
10/ (1981) مجلة الإحكام القضائية ، ص 100.
11/ (1965) حكومة السودان ضد زهراء آدم عمر وآخرين صفحة 31 .
12/ (1980) مجلة الأحكام القضائية ص 117 .
13/ (1972) مجلة الأحكام القضائية ص 85 .
14/ الطعن م ع/ط أ/97/99 خضر محمد نور ضد وزير العدل (غير منشور) .
15/ المحكمة العليا دائرة الولاية الوسطى م ع/ ف ج/145 /1995م حكومة السودان ضد أبو القاسم الأمين عبد الله .
16/ حكومة السودان ضد طه محمد حسن (1963) مجلة الأحكام القضائية .
17/ حكومة السودان ضد عبد الحميد أبو القاسم (1961) مجلة الأحكام القضائية ، ص129.
18/ (1976) مجلة الأحكام القضائية ص 831
19/ (1987) مجلة الأحكام القضائية ، صفحة 243 .
20/ (1994) مجلة الأحكام القضائية ، صفحة 37 .
21/ (1977) مجلة الأحكام القضائية ، ص 557 .
22/ الاتحاد العام لكرة القدم وآخر ضد نادى الزهرة الرياضي (1980) مجلة الأحكام القضائية ، ص 262.
23/ محمود جمال صدار ضد حكومة السودان (ديوان النائب العام) ، (1978) مجلة الأحكام القضائية ، ص 174
24/ محمد المأمون بابكر زروق ضد عميد معهد الموسيقى والمسرح اشهر القضايا الإدارية والدستورية فى السودان لهنرى رياض وفاروق احمد ابراهيم طبعة دار الجيل بيروت ص 97.
25/ شركة معادن باشكين ضد الهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية لجنة المناجم والمحاجر مراجعـــة /11/2000م (غير منشورة) .
26/ حكومة السودان ضد عبد المتعال محمد عبد الله ، (1973) مجلة الأحكام القضائية ، ص 281.
27/ الطعن م ع/ ط أ س/143/99 (غير منشور)
28/ م ع/ط أ س/92/2000 (غير منشورة) .
29/ انظر م ع/ط أ/4/99 (غير منشور) .
30/ م ع/ط أ س/55/2000 (غير منشورة) .
31/ دستور جمهورية السودان 1998م .
32/ قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م معدلا حتى 2002م
33/ قانون الإجراءات الجنائية المصري .
34/ لائحة لتنظيم أعمال وكالات النيابات لسنة 1998م .
35/ قانون القضاء الدستوري والإداري 1996م .
36/ قانون تسوية الأراضي وتسجيلها 1925م .
37/ قانون النائب العام 1981 ، 1983م والذي أطلق عليه مؤخرا قانون تنظيم وزارة العـــدل 1983م تعديل 1996م .
38/ قانون تفسير القوانين والنصوص العامة 1974م .
39/ قانون السلطة القضائية لسنة 1986م .
40/ القانون الجنائي لسنة 1991م .
41/ قانون الإجراءات المدنية 1983م .


 
 

 

الانتقال السريع           

 

  الموجودون الآن ...
  عدد الزوار 1943 / عدد الاعضاء 62