نبيل شرف الدين من القاهرة: للمرة الأولى منذ ما عرف بـ "مذبحة القضاء" في مصر في العام 1969 إبان حكم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، عاد رجال القضاء إلى دائرة الاهتمام السياسي، ودخل القضاة على خط "مطالبات الإصلاح" التي ارتفعت وتيرتها في مصر على نحو غير مسبوق، وباتفاق كافة القوى على الساحة، من أقصى اليمين الديني المتشدد، إلى أقصى اليسار الراديكالي، مروراً بمختلف ألوان الطيف السياسي والفكري في مصر، على ضرورة الإصلاح، وإن اختلفت أجندة كل فصيل، وتباينت وسائله، لكن الجديد والمثير هذه المرة، هو انخراط القضاة في المطالبة بإصلاح شؤونهم، باعتبارها مدخلاً للإصلاح السياسي في البلاد، وهو ما عبرت عنه مناقشات كوكبة من رجالات القضاء في المؤتمر الثاني لأعمال "المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة"، في مصر، التي انطلقت تحت لافتة "تعديل قانون السلطة القضائية المصري"، حيث طالبوا بتعديل قانون السلطة القضائية المعمول به حالياً في مصر، واستقلال القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية باعتبار ذلك ضمانة أساسية لحماية الحقوق والحريات في المجتمع بأسره، والمدخل الصحيح للإصلاح في البلاد.
إعتصام وإضراب
وبينما لوّح عدد من القضاة بالامتناع عن الإشراف على الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة، مؤكدين أنه لن تكون هناك ديمقراطية، ولن تجري انتخابات نزيهة من دون قضاء مستقل"، فقد ذهب بعض القضاة إلى ما هو أبعد وأخطر من ذلك بالدعوة إلى "الاعتصام أو حتى الإضراب عن العمل" لكن شيوخ القضاة عملوا على إثنائهم، و"اعتماد أسلوب الحوار، وليس المواجهة مع الدولة".
وسرد المستشار أحمد صابر، عضو مجلس إدارة نادي القضاة، تطورات هذه المسألة منذ العام 1969 حين وقعت مذبحة القضاة، وحتى العام 1990 حين قررت الجمعية العمومية لنادي القضاة ضرورة وضع مشروع لتعديل قانون السلطة القضائية، بما يحقق استكمال استقلال القضاة، وحددت المبادئ التي يتعين مراعاتها عند وضع المشروع، ولجمعيتهم العمومية المنعقدة في 18 كانون الثاني (يناير) من العام 1991 والتي أقرت مشروع القانون الذي وضعته اللجنة المشكلة لهذا الغرض، غير أنه لم يقدر لهذا المشروع أن يرى النور لأسباب ليست خافية، حتى تبلورت ما أسماها "الصحوة القضائية" التي وضعت في مقدمة أهدافها اجراء الإصلاح المنشود، فشكل مجلس إدارة نادي القضاة لجنة لدراسة المشروع السابق في ضوء ما استجد من أحداث، وما أبداه القضاة من ملاحظات، ثم خلصت إلى وضع مشروع القانون الحالي، وهو المشروع الذي طالب باقراره قبل انتهاء الدورة التشريعية الحالية في شهر حزيران (يونيو) المقبل حتى لا تجري الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة في ظل القانون الحالي الذي لا يسمح، وفقا لهم، بضمان نزاهة العملية الانتخابية برمتها.
وبينما دعا المستشار احمد مكي نائب رئيس محكمة النقض إلى ضرورة الفصل التام بين سلطتي الاتهام والتحقيق وقال ان الاستقلال الكامل للقضاء لا يتحقق إلا بتوحيده موضحا ان مصلحة الدولة تقتضي ان يكون القضاء مستقلا، فقد أعلن ممثلو النقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني تأييدهم لمطالب القضاة بضرورة اصدار قانون السلطة القضائية قبل الانتخابات العامة المقبلة.
دور المحلل
من جهته اعتبر المستشار يحيي الرفاعي ـ وهو رئيس سابق لمحكمة النقض وأحد ابرز فقهاء القانون في مصر ـ أن "القضية الاساسية هي قضية الديمقراطية، فليست هناك ديمقراطية من دون قضاء مستقل ونزيه وكفء"، واضاف في تصريحات لوكالة (فرانس برس) قائلاً إن "الدستور نص على استقلال القضاء ولكنه لم يضع الضمانات الكاملة لذلك وهو ما مكن وزراء العدل من التحكم في شؤون القضاة بدءا من تحديد البدلات والمكافآت المالية التي يحصلون عليها، وانتهاء بتعيينهم في المناصب العليا في الدولة، وهو ما يعني عمليا شراء الذمم لضمان الموالاة للنظام"، لكنه اعتبر ان "القاعدة العريضة للقضاة مازالت سليمة رغم هذا الإفساد"، مؤكداً أن "أمل القضاة أضحى الآن معلقاً بمشروع القانون الذي تقدموا به للبرلمان، وقد تساعد الظروف الخارجية الان على اقراره، وخاصة الدعوات في الولايات المتحدة واوروبا الى التغيير والديمقراطية"، وفق ما نقل عن المستشار الرفاعي.
أما المستشار هشام البسطويسي وهو احد نواب رئيس محكمة النقض، وهي أرفع المحاكم المصرية، فقد ربط بين استقلال القضاء وبين الانتخابات، "لأنه ما لم يكن القاضي مستقلا وما لم تكن له سلطة الاشراف على كل مراحل العملية الانتخابية بدءا من إعداد جداول الناخبين حتى اعلان النتائج فانه لا يستطيع ضمان نزاهتها وسيكتفي بدور (المحلل) اذ سيكون اشرافه صورياً، في ما تظل السلطة الحقيقية في يد الاجهزة التنفيذية وخاصة وزارة الداخلية"، لافتاً إلى أنه "بموجب القانون الساري حاليا، فان الدولة اغتصبت كل سلطات القضاة ووضعتها في يد وزير العدل كما أن السلطة التنفيذية تقوم بتعيين اعضاء مجلس القضاء الاعلى السبعة، الذي يتشكل من ستة من رؤساء واعضاء المحاكم اضافة الى النائب العام، ولذلك يقضي مشروع تعديل القانون بالغاء أي سلطة لوزير العدل على القضاة وباختيار النائب العام وخمسة من اعضاء مجلس القضاء الاعلى بالانتخاب"، على حد تعبيره.
وأخيراً فقد عقب المستشار محمود ابو الليل وزير العدل المصري قائلاً إن اعداد هذه التشريعات يأتي استكمالا لسير تحديث البنية التشريعية، والاستجابة لحاجات تطوير المجتمع في شتى مجالات العمل الوطني، موضحاً أنه سيتم ايضا العمل على تعديل قانون السلطة القضائية من خلال لجنة رفيعة المستوى تضم عددا من مساعديه ورئيس نادي القضاة، ومشيرا إلى ان هذا المشروع سيتم عرضه عقب انتهاء أعمال اللجنة على مجلس القضاء الأعلى، لأخذ الرأي فيه إعمالا لقانون السلطة القضائية، ولنص الدستور المصري الذي يقضي بأخذ رأي المجلس في مشروعات القوانين التي تنظم شؤون الهيئات القضائية، ثم يتم بعد ذلك عرضه على مجلس الوزراء، قبل إحالته الى مجلسي الشعب والشورى (البرلمان) باعتباره من القوانين المقيدة للحريات. |