اسم المستخدم: كلمة المرور: نسيت كلمة المرور



 

     
 
 
التاريخ
8/14/2002 1:04:00 PM
   إقتضاء الحق بغير دعوى بين الشريعة والقانون       

حق الشخص في إقتضاء حقه بغير دعوى :-

هل يجوز للشخص أن يقتضي حقه بنفسه دون الإلتجاء إلى القضاء في الشريعة الإسلامية ؟

هناك خلاف بين الفقهاء يقتضي المقام أن نتعرض له قبل محاولة الإجابة على التساؤل السابق .

 

رأي الشافعية :-

                      قالوا أنه يجوز لمن كان له حق عند الغير وقدر له على مال أن يأخذ منه مقدار حقه .... وإن لم يقدر على استخلاص حقه بعينه فله أخذ قدر حقه من جنسه أو من غير جنسه ومن ذلك حق ولده الصغار وحق من هو قيمَّه بماله – ومن كانت له بينة وقدر على إستخلاص حقه ففيه وجهان في المذهب ، الأول : أنه إن لم يكن لغيره دين فله أن يأخذ بقدر حقه ، والثاني : أنه إن كان عليه دين لآخر لم يجز لأنهما يتحاصا في ماله إذا أفلس .

وأستدل الشافعية على ذلك بحديث هند بنت عتبه بن ربيعة أم معاوية التي جاءت تشكو بخل زوجها أبا سفيان وقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وبني ، فقال صلى الله عليه وسلم : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف . متفق عليه

المراجع ( الأم للأمام الشافعي ج5/100 وما بعدها – التاج والإكليل ج5/265 – تحفة المحتاج ج10/288 – المقدمات والممهدات ج2/458 – المغني ج9/326 ) .

رأي المالكية  :-

                 للمالكية روايتين في ذلك ، الأولى : أنه لا يجوز لمن كان له حق عند الغير وقدر له على مال فلا يأخذ منه مقدار حقه ، والرواية الثانية : قال بن عقيل جعل أصاحبنا المحدثون لجواز الأخذ وجهاً في المذهب من حيث هند حين قال لها النبي صلى الله عليه وسلم خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف . وقال أبو الخطاب : يتخرج لنا جواز الأخذ ، فإن كان المقدور عليه من جنس حقه أخذ بقدره وإن كان من غير جنس حقه تحرى وأجتهد في تقويمه مأخوذ من حديث هند ، ومن قوله صلى الله عليه وسلم في المرتهن يركب ويحلب بقدر ما ينفقه ، فالمرأة تأخذ مؤنتها وبائع السلعة يأخذها من مال المشتري المفلس بغير رضاه ، ويفرق بين إن كان لغيره دين أم لا ، فإن كان ليس لغيره دين جاز له ذلك ، وإن كان لغيره دين لم يجز لأنهما يتحاصان في ماله إذا أفلس .

وظاهر المذهب أنه لا فرق بين جنس ماله وغيره .

المراجع ( إغاثة اللهفان ج2/75  - المغني ج9/327 ) .

رأي الحنفية :-

                   يذهب الحنفية إلى أنه ليس للدائن أن يأخذ من مال مدينه بدون إذنه إلا ما كان من جنس حقه فقط ، لأنه إستيفاء ولا يسوغ الأخذ من غير الجنس ، لأنه معاوضة فلا يجوز إلا برضا الغريم .

أما إذا أراد أخذ دينه من مال غريمة من غير جنس حقه فلم يجز لأن الأخذ من غير جنس الحق معاوضة ، ولا تجوز المعاوضة إلا برضا المتعاوضين قال تعالى : ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) – ومن أجاز الأخذ أحتج بحديث هند السابق الإشارة إليه على سبيل القياس ، وقال أنه إذاً يجوز للرجل الذي له حق على الرجل أن يأخذه منه بدون إذنه إستدلالاً بحديث هند . 

المراجع ( المبسوط ج11/128 )

رأي الحنابلة  :-

                 يذهب الحنابلة إلى أنه : من كان له على أحد حق ، ومنعه منه ، وقدر على مال له ، لم يأخذ منه إلا مقدار حقه لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أد الأمانة إلى من أئتمنك ولا تخن من خانك ) .

وجملة القول عندهم : أنه إذا كان على رجل لغيره حق وهو مقر به وباذل له ، لم يكن له أن يأخذ من ماله إلا ما يعطيه بلا خلاف بين أهل العلم ، فإن أخذ من ماله شيء بغير إذنه لزمه رده إليه وإن كان مقدار حقه لأنه لا يجوز له أن يملك عليه عينناً من أعيانه بغير اختياره لغير ضرورة ، وإن كان من جنس حقه ، لأنه قد يكون للإنسان غرض في العين – وإن كان مانع له لأمر يبيح المنع كالتأجيل والإعسار لم يجز أخذ شيء من ماله بغير خلاف وإن أخذ شيء لزمه رده إن كان باقياً أو عوضه إن كان تالفاً ولا يحصل التقاص هنا لأن الدين الذي له لا يستحق أخذه في الحال .

وإن كان مانعاً له بغير حق وقدر له على مال يمكن إستخلاصه بالحاكم أو السلطان لم يجز له الأخذ بغير الحاكم أو السلطان ، لأنه قدر على إستيفاء حقه بمن يقوم مقامه ، فأشبه ما لو قدر على إستيفائه من وكيله – وإن لم يقدر على ذلك لكونه جاحداً له ولا بينة له فلا يمكن إجباره على ذلك ، فالمشهور في المذهب أنه لا يجوز له الأخذ .

المراجع : ( المغني ج9/325 – شرح منتهى الإيرادات ج2/502 ، الكشاف ج6/351 )

بعد هذا العرض السريع لأقوال الفقهاء نجد أن أقوالهم ترد إلى فريقين ، فريق يجيز وفريق يمنع ، وأن الفريق الذي يجيز .... يجيز ذلك وفق ضوابط مثل أخذ قدر الدين وأن يكون المأخوذ من نفس جنس الدين ..... على التفصيل السابق بيانه .

وقد ناقش بعض الفقهاء هذا الأمر ، نقاش في غاية الروعة والكمال العقلي ولأهميته أعرض بعض من تلك الآراء .

-       يقول البغوي في شرح السنة ج8/206 : أن المراد بحديث ( أد الأمانة إلى من أئتمنك ولا تخن من خانك ) ، أن الخيانة تكون في إستيفاء الحق وزيادة ، فأما إستيفاء قدر الحق فمأذون به  إستدلالاً بحديث هند ، فلا يدخل تحت النهي عن الخيانة الواردة بحديث أد الأمانة ، وبذلك يمكن الجمع بين الحديثين ولا يحملان على التعارض .

-       ويقول بن حزم في المحلى ج8/180 وما بعدها : بأن من لم يأخذ قدر حقه وهو قادر عليه كان عاصياً لأن من ظفر بمثل ما ظلم فيه فلم يزل الظلم عن يد الظالم ، فهو ظالم لأنه قد أعان على الظلم والعدوان لا على البر والتقوى والله تعالى يقول : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) ، وبأن من قدر على كف الظلم بأخذ حقه من الظالم ولم يفعل فيكون تارك لإنكار المنكر وتغييره مع القدرة عليه وتلك معصية .

-        ويرد الحنابلة على ذلك : فيقول الأمام أحمد : بأن ما ورد في حديث هند – بأن حقها واجب على زوجها أبا سفيان في كل وقت وهذا إشارة منه إلى الفرق بالمشقة في المحاكمة في كل وقت وكل يوم تجب فيه النفقة بخلاف الدين .  ويزيد بقية فقهاء الحنابلة على ذلك بأن : حديث هند متعلق بالنفقة والنفقة تراد لإحياء النفس وهذا ما لا يصبر عليه ولا سبيل إلى تركه فجاز أخذ ما تندفع به الحاجة بخلاف الدين – كما أن لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يحل مال آمري مسلم إلا عن طيب نفس منه ) ، لأنه إن أخذ من غير جنس حقه كان معاوضه بغير تراض ، وإن أخذ من نفس الجنس فليس له تعيين الحق بغير رضى صاحبه – ولهم أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم ( أد الأمانة إلى من أئتمنك ولا تخن من خانك )  فمتى أخذ منه قدر حقه من ماله بغير علمه فقد خانه فيدخل في عموم خبر الحديث .

         المراجع :( شح منتهى الإيرادات ج2/502 – الكشاف ج6/351 ) .

-       ومن الجدير بالذكر أنه هناك رأياً للأمام بن تيمية في هذا الأمر خلاصته : أنه يجب التفريق بين أمرين الأول : أن يكون سبب الحق ظاهر لا يحتاج إلى إثبات كإستحقاق المرأة النفقة على زوجها والولد على والده ، فللدائن في هذه الحالة أن يأخذ من مال مدينه بدون أذنه  والثاني : ألا يكون سبب الاستحقاق ظاهر مثل أن يكون المدين قد جحد الدين ، فليس للدائن أخذه ، وإن أخذه فهذه خيانة لأنه بذلك يفتح باب التأويل وصار كالمظلوم الذي لا يمكنه الانتصار إلا بالظلم ( أنظر عرض لآراء الفقهاء السابقة ومن ثم تعليق الأمام في مجمع الفتاوى ج30 / 371 إلى 375 . ، ويقول بن القيم الجوزية: أن هذا القول أصح الأقوال وأسداها وأوفقها لقواعد الشريعة وأصولها وبه تجتمع الأحاديث ، وخرج حديث أخذ خراج الرهن بدون أذن مالك الشيء المرهون وفاءاً لنفقته حيث ورد في الحديث : ( الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهوناً ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً وعلى الذي يركب ويشرب النفقة )  بكلام في غاية الإبداع فقال : أنه إذا أنفق على الرهن صارت النفقة ديناً على الراهن ، وفي نفس الوقت يريد المرتهن حفظ الوثيقة لكي لا يذهب ماله ويحصل ذلك ببقاء الحيوان ( الشيء المرهون ) وهذا البقاء طريقة الإنفاق العناية ، ولكي يرجع بالنفقة يتعين عليه الإشهاد في كل وقت أو إستئذان الحاكم وهو ما يتعسر ، وذلك فإن الحاجة والمصلحة الراجحة توجب أخذه خراج الشيء المرهون مقابل نفقته  خاصة أنه إذا ترك ظهر الحيوان المرهون عطل منفعة ظهره ، وإذا ترك لبنه فإنه أفسده وأراقه– يمكن الرجوع تفصيلاً إلى أعلام الموقعين ج2/321 .

 

بعد هذا العرض لتلك الثروة الفقهية ، أجد وفي مقام الرأي وفقاً لما يمكن أن يوصلني إليه علمي القاصر المحدود أجد أنه :-

-       أن الأصل هو عدم جواز أخذ الشخص حقه بنفسه لأنه يمثل عودة للقضاء الخاص الذي يكون فيه الشخص هو الخصم والحكم والمنفذ لقضائه ، وهو ما ترفضه الشريعة لأنه لا يتفق مع مبادئها وقواعدها الكلية – ولأنه لو كان الأمر كذلك لما كان هناك حاجة لوجود القضاء .

-       أن حديث هند ربما يكون مخصص في موضعه ، حيث أنه لدين النفقة أحكام وقواعد تختلف عن أحكام الديون عامة ، وبالتالي يصعب الإستدلال به في كافة الديون – وبهذا يمكن الجمع بين حديث أد الأمانة وحديث هند ، حيث أن الأول عام والثاني خاص ، والخاص يقيد العام في موضعه – علماً بأن بعض الفقهاء نظر للمسائلة نظر آخر مقتضاه ، أن إجازة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند بأخذ ما يكفيها لنفقتها ونفقتها ولدها من مال زوجها بغير أذنه : أنه قضاء لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حاكم ، وأن رفع هند الأمر للرسول بمثابة دعوى أو شكوى – غير أن هذا النظر ربما يرد عليه أن ذلك يصعب أن يقال عليه قضاءاً لصدوره في غيبة الخصم الآخر .

-       أن من أجازوا أخذ الدائن حقه من مدينة بغير أذن إستناداً على حديث هند ، اشرطوا ذلك بقدر الحق ، وبعضهم شرط ذلك بالقدر والجنس ، ولما كان هناك كثير من الحقوق وخصوصاً في هذا العصر التي يتعذر للدائن استيفاءها بنفسه خوفاً من جوره وإنتقامه ومقارنة بالأضرار التي يمكن أن تترتب على إباحة هذا الأمر فإن المنع يجد سند أخر وهو سد الذرائع .

-       وبالتالي إذا أردنا أن نقف موقف بين كل تلك الآراء وحيث أن تلك الآراء تتدرج بين الإجازة والمنع تدرج في غاية الروعة والكمال ، فإذا أمكننا التوفيق بينها تحققت الإستفادة العظمى منها جميعهاً ، والتوفيق يكون بتحقيق ميزة الإجازة وتلافي موانع المنع ، حيث أن الأحكام تدور مع عللها وجوداً ، وبالتالي تكون الإجازة مقيدة بضوابط تحقق تلافي أوجه المنع ، وإذا كانت علة المنع تكمن في الفتنة والفساد التي تتولد من أخذ الشخص حقه بنفسه دون اللجوء إلى القضاء ،  وبالتالي أمكننا القول بأنه في كل حال يستوفي الدائن حقه من مدينة بدون اللجوء إلى القضاء بغير تحقق تلك الفتنة والفساد أي بسهوله ويسر وذلك بموجب موافقة وعلم المدين إن أمكن ذلك ، أو بأمر القاضي في حالة حصول اعتراض .

 

أن ذلك العرض يقودنا إلى مقارنة أراء الفقهاء السابقة مع ما هو مقرر في القوانين المدنية الوضعية من المقاصة في الديون التي هي إستيفاء للحقوق بدون اللجوء إلى القضاء في حالة المقاصة الإتفاقية ، أو باللجوء إلى القضاء في حالة المقاصة القضائية ، ومن ضرورة توافر شروط التساوي في القدر والجنس والقوة وإستحقاق الأداء ، وما جاء بالمقاصة الاتفاقية هو ما شرطه الفقهاء بكون المدين بازل وغير معارض وأن سبب الاستحقاق ظاهر غير مختلف فيه ، وما جاء في المقاصة القضائية من توقفها على أمر القاضي .

وهذا يبين أن الشريعة لم تترك شيء إلا وقررته ، وأن تلك الثروة الفقهية ربما يكون قد استفاد منها الغرب عند صياغة قوانينه وأترك للقارئ الكريم مقارنة تلك الآراء مع ما هو مقرر في القوانين الوضعية بخصوص المقاصة ليحكم على درجة التشابه ، ذلك أن التشابه في نظري غير بعيد ( مع وجود الفارق ) .... بينما نحن لم نولي تلك الآراء العناية والإهتمام الواجبين . 

 

 


 
 

 

الانتقال السريع           

 

  الموجودون الآن ...
  عدد الزوار 3246 / عدد الاعضاء 62