اسم المستخدم: كلمة المرور: نسيت كلمة المرور



 

     
 
 
مشرف المنتدى
التاريخ
9/10/2023 11:46:05 AM
  سؤال الهوية في العيد المئوي لدستور 1923      

سؤال الهوية في العيد المئوي لدستور 1923 بقلم الدكتور/ أحمد عبد الظاهر ـ أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس 2023م، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، أثارت حملة «مصري مش عربي» ردود فعل متباينة وجدلاً واسعاً حول هوية مصر التاريخية وتنوعها الثقافي، وسط تساؤلات عن أهداف الحملة الآن ومخاوف من أن تؤدي النقاشات إلى انقسام بين المصريين أنفسهم وبين الشعب المصري والشعوب العربية. وبدأت القصة بعدما عرض «كمت بوتيك»، وهو متجر يعرف عن نفسه بأنه «أول براند قومي مصري مخصص لتعزيز الهوية المصرية وللطباعة حسب الرغبة»، قمصاناً مكتوب عليها شعار «مصري مش عربي» و«مصرية مش عربية» للبيع عبر المتجر. وسرعان ما تداول نشطاء صور هذه القمصان عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتحولت لاحقاً إلى حملة أوسع، شارك فيها كثيرون تحت وسم #مصريمشعربي. واعتبر المشاركون في الحملة التي تتزامن مع قرب رأس السنة المصرية أن هدفهم من ورائها هو «تعزيز التوعية التاريخية والفنية والثقافية بالهوية واللغة المصرية». وفي السياق ذاته، اعتبر حساب «وعي مصر» عبر منصة إكس أنه «لأول مرة من عقود طويلة هناك برنامج مخصص لتدريس اللغة المصرية والخط الهيروغليفي وأغاني مصرية بدأت ترجمتها للغة المصرية». وشارك الحساب ما اعتبروه «أساسيات القومية المصرية» التي يجب معرفتها من بينها: – القومية المصرية ليس بها أي علاقة بأي دين أو معتقد مهما كان. فكلنا مصريين سواء كنا مسلمين أو مسيحيين أو غيره. – المصريين يتكلمون حالياً لغة عربية باللهجة المصرية كنتاج مباشر لتغيير اللغة المصرية بالتدريج أثناء حكم العرب للدولة المصرية. – اللغة كمعيار «وحيد» لا تحدد هويات الشعوب فن المستحيل اعتبار شعوب غرب إفريقيا فرنسيين لأن لغتهم الأم هي الفرنسية. – التأثيرات الخارجية لا تمحي ولا تستبدل ولا تزاحم أصل الهوية، مصر والمصريين مصريين بغض النظر عن فترات الحكم الأجنبي التي مرت على البلاد مهما كانت. وتأتي هذه الحملة بعد مرور مائة عام على أول دستور عرفته الحياة السياسية والقانونية المصرية، وهو دستور مملكة مصر والسودان الصادر سنة 1923م. وبإمعان النظر في هذا الدستور، يبدو سائغاً القول بغلبة النزعة الوطنية المصرية عليه. ومع ذلك، ورغم هذه السمة السائدة في هذا الدستور، فإن بعض التشريعات الصادرة آنذاك ظلت تستخدم تعبير «القطر المصري»، الأمر الذي يشير إلى فترة الاحتلال العثماني لمصر أو ما يطلق عليه البعض الخلافة العثمانية. والواقع أن هذه الفترة وما سبقها مباشرة قد شهدت ظهور بعض الشعارات الوطنية، مثل شعار «مصر للمصريين» والمقولة الخالدة التي أطلقها الزعيم الوطني مصطفى كامل، وهي «لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً». وفي اعتقادنا أن النزعة الوطنية البادية في دستور 1923م تبدو انعكاساً للظروف السياسية السائدة آنذاك. ومن ناحية أخرى، وبالنظر للقداسة التي يحظى بها اسم مصر في الكتب السماوية، نرى من السائغ القول إن الهوية الوطنية المصرية تجد لها سنداً وأساساً من الأديان السماوية. كذلك، وفي اعتقادنا، تجد النزعة الوطنية البارزة في نصوص دستور 1923م سبباً لها في الاكتشافات الفرعونية والخصوصية الثقافية والخريطة المصرية. وسنحاول فيما يلي إلقاء الضوء على النقاط سالفة الذكر، بحيث نخصص لكل نقطة منها مطلباً منفصلاً، وذلك على النحو التالي: المطلب الأول: مظاهر النزعة الوطنية المصرية في دستور 1923. المطلب الثاني: الدولة المصرية ليست قطراً. المطلب الثالث: النزعة الوطنية وشعار «مصر للمصريين». المطلب الرابع: النزعة الوطنية والظروف السياسية. المطلب الخامس: النزعة الوطنية والقداسة الدينية. المطلب السادس: النزعة الوطنية والاكتشافات الفرعونية. المطلب السابع: النزعة الوطنية والخصوصية الثقافية. المطلب الثامن: النزعة الوطنية والخريطة المصرية. المطلب الأول مظاهر النزعة الوطنية المصرية في دستور 1923 صدر أول دستور مصري سنة 1923م، تحت عنوان «دستور مملكة مصر والسودان». وجاء عنوان الباب الأول منه تحت عنوان «الدولة المصرية ونظام الحكم فيها». ووفقاً للمادة الأولى من هذا الدستور، فإن «مصر دولة ذات سيادة وهي حرة مستقلة ملكها لا يجزأ ولا ينزل عن شيء منه وحكومتها ملكية وراثية وشكلها نيابي». وهكذا، فقد ورد اسم «مصر» و«الدولة المصرية» و«المملكة المصرية» مجرداً من أي أوصاف تدل على الانتماء للقومية العربية أو تعبر عن أي توجه أو عن انتماء لموروث معين دون غيره (راجع على سبيل المثال: المادتين 32 و47 من دستور مملكة مصر والسودان لسنة 1923م). بل إن المادة الخمسين من الدستور قد استخدمت تعبير «الأمة المصرية»، بنصها على أنه «قبل أن يباشر الملك سلطته الدستورية يحلف اليمين الآتية أمام هيئة المجلسين مجتمعين: (أحلف بالله العظيم أنى احترم الدستور وقوانين الأمة المصرية وأحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه)». وغني عن البيان أن تعبير «الأمة المصرية» دال على غلبة الاتجاه الوطني المصري كمعيار مميز للهوية المصرية. وجدير بالذكر أيضاً في هذا الدستور أن نصوصه تعمد إلى استخدام لفظ «المصريين» بدلاً من مصطلح «المواطنين» (راجع على سبيل المثال: المواد 20 و21 و22 من دستور مملكة مصر والسودان لسنة 1923م). وفي ظل هذا الدستور، لم يرد النص على أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية سوى في المادة (149)، وهي إحدى مواد الباب السادس، والمعنون «أحكام عامة». ولم يختلف الوضع في ظل دستور الدولة المصرية لسنة 1930م، ولاسيما الباب الأول منه، والمعنون «الدولة المصرية ونظام الحكم فيها». إذ تنص أولى مواد هذا الباب، وهي المادة الأولى من الدستور، على أن «مصر دولة ذات سيادة، وهي حرة مستقلة، ملكها لا يتجزأ ولا ينزل عن شيء منه وحكومتها ملكية وراثية وشكلها نيابي». وورد مسمى «المملكة المصرية» مجرداً من أي أوصاف أخرى، وذلك في المادة الثانية والثلاثين من الدستور ذاته. كذلك، وردت ألفاظ «مصري» و«المصري» و«المصريين» في العديد من مواد الدستور، والمقابل لها في الدساتير المصرية اللاحقة على عام 1971م هو «مواطن» و«المواطن» و«المواطنين». كذلك، ورد في بعض مواد الدستور تعبير الديار المصرية، والمقصود به هو الإقليم المصري في الدساتير المصرية اللاحقة. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن النص على أن «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية» لم يرد سوى في المادة 138، وهي إحدى مواد الباب السادس، والمعنون «أحكام عامة». المطلب الثاني الدولة المصرية ليست قطرا رغم أن دستور مملكة مصر والسودان لسنة 1923م ودستور الدولة المصرية لسنة 1930م قد عمدا إلى إبراز النزعة الوطنية المصرية، وعلى الرغم من انتهاء التبعية المصرية للدولة العثمانية في الثامن عشر من شهر ديسمبر سنة 1914م، حيث تم في هذا التاريخ فرض الحماية البريطانية على مصر، واستمرار هذا الوضع حتى الثامن والعشرين من شهر فبراير 1922، وهو التاريخ الذي شهد صدور التصريح البريطاني بالاعتراف بمصر دولة مستقلة، وتغيير اسمها إلى «السلطنة المصرية»، فإن قانون العقوبات المصري رقم (58) لسنة 1937م، والساري حتى وقتنا الحالي، ما زال يستخدم تعبير «القطر المصري» (راجع: المواد الأولى والثانية والثالثة من قانون العقوبات المصري رقم 58 لسنة 1937م). وغني عن البيان أن لفظ «القطر» (بضم القاف وسكون الطاء)، وجمعه «أقطار»، هو الناحية أو الجهة أو الجانب، ومنه قيل «القطر» لجملة من البلاد والنواحي تتميز باسم خاص. وهكذا، فإن كلمة «القطر» تشير إلى الانتماء إلى كيان أكبر، ويرجع استخدام هذا اللفظ إلى فترة الاحتلال العثماني لمصر. وإذا كان قانون العقوبات المصري قد صدر سنة 1937م، أي بعد انتهاء الحكم العثماني لمصر رسمياً ودخولها تحت الاحتلال البريطاني، فإن اجماع فقهاء القانون الجنائي المصري منعقد على أن ظروف السرعة التي صاحبت إصدار هذا القانون أدت إلى اعتماده أساساً على قانون العقوبات الأهلي الصادر سنة 1904م، أي إبان فترة التبعية الشكلية للدولة العثمانية. وللسبب ذاته أيضاً، يمكن أن نفهم السر وراء استخدام قانون العقوبات المصري حتى تاريخه عبارة «الجرائم المخلة بأمن الحكومة من جهة الداخل» و«الجرائم المخلة بأمن الحكومة من جهة الخارج»، وذلك بدلاً من عبارتي «الجرائم المخلة بأمن الدولة من جهة الداخل» و«الجرائم المخلة بأمن الدولة من جهة الخارج»، والتي تجمع التشريعات العربية الأخرى جميعها على استخدامها. فقد كان المقصود إذاً هو تفادي استخدام وصف «الدولة»، باعتبار أن الإقليم المصري آنذاك كان يشكل جزءاً أو قطراً عثمانياً. والواقع أن بعض المصريين ما زالوا قابعين تحت تأثير الحنين إلى فترة «الخلافة العثمانية»، كما يحلو لهم أن يطلقوا عليها. بل إن ذلك ظل سائداً وشائعاً على نطاق واسع حتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث يشهد العالم العربي منذ العام 2010م ما يمكن تسميته «إعادة توصيف» للمرحلة العثمانية في تاريخه، وكانت البداية من مصر، حيث تم تنقيح مناهج مادة الدراسات الاجتماعية أو التاريخ التي يتم تدريسها في المدارس الابتدائية، والتي كانت تستخدم عبارة «الفتح العثماني لمصر»، وتم استبدالها إلى «الحكم العثماني لمصر». وفي شهر ديسمبر 2019م، وعلى إثر عرض المسلسل التليفزيوني «ممالك النار»، حدثت ضجة كبيرة من أولياء الأمور غضباً من توصيف الحقبة العثمانية في التاريخ المصري بوصف «الفتح»، وليس «الاحتلال» أو «الغزو»، الأمر الذي استدعى خروج وزير التعليم آنذاك بتصريح، نافياً وجود جملة «الفتح العثماني لمصر» بمناهج الابتدائية، مؤكداً أن مناهج التاريخ تتسم بالموضوعية، ولا تعكس أي توجهات، موثقاً كلامه بصور من صفحات كتاب الدراسات الاجتماعية المقررة على الطلاب. والواقع أن الصفحات التي استشهد بها وزير التعليم قد تضمنت عبارات: «الحكم العثماني»؛ «امتداد الدولة العثمانية في العالم العربي»؛ «دخول العثمانيين إلى مصر»؛ «نظام الحكم العثماني في مصر»؛ «دخول العثمانيين إلى مصر». وهكذا، تفادت المناهج الدراسية استخدام عبارة «الاحتلال العثماني لمصر» أو «الغزو العثماني لمصر». وإذا كانت هذه الصفحات قد أشارت إلى بعض مساوئ الحكم العثماني، فإن ذلك يمكن أن يحدث أيضاً في وصف بعض فترات الحكم الوطنية. ولذلك، نرى أن هذه الإشارة ليست كافية، وكان ينبغي وصف الحكم العثماني صراحة بوصف «الاحتلال» و«الغزو»، دونما مواربة. إن إعادة تنقيح المناهج الدراسية لتفادي مثل هذه الأمور تبدو ضرورية، لاسيما وأن المادة التاسعة عشرة من الدستور المصري الحالي تحدد هدف النظام التعليمي ببناء الشخصية المصرية والحفاظ على الهوية الوطنية وإرساء مفهوم المواطنة، بما يستلزمه ذلك من تعزيز الانتماء إلى الوطن وتربية النشء على رفض كل تدخل خارجي في شؤوننا، سواء كان ذلك في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وأياً كان شكل هذا التدخل أو مصدره أو الشعارات والمزاعم التي يرفعها. كذلك، نعتقد من الضروري أن يبادر مجلس النواب المصري إلى تنقيح قانون العقوبات على وجه عاجل، من خلال تعديل تشريعي عاجل باستخدام عبارة «الدولة المصرية» بدلاً من كلمة «القطر» أينما وردت في هذا القانون (راجع: مقالنا بعنوان «مصر العظيمة ليست قطراً»، جريدة الوطن، القاهرة، نافذة رأي، الثلاثاء الموافق 7 يناير 2020م). المطلب الثالث النزعة الوطنية وشعار «مصر للمصريين» في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ذاع وانتشر في المجتمع المصري عبارة وشعار «مصر للمصريين». وظهرت بعض المؤلفات والكتب التي تحمل هذه العبارة عنواناً لها. وللتدليل على ذلك، يكفي أن نشير إلى موسوعة الكاتب سليم خليل النقاش، بعنوان مصر للمصريين، والتي صدرت في تسعة أجزاء، يتناول كل جزء منها فترة زمنية معينة من حياة الشعب المصري في الربع الرابع من القرن التاسع عشر، بحيث وصلنا في الجزء التاسع والأخير إلى «محاكمة العرابيين». بل إن استخدام عبارة مصر للمصريين لم يقتصر على أبناء الشعب المصري آنذاك، وإنما امتد إلى بعض المؤلفين من ذوي الجنسيات الأجنبية. ولعل ذلك يبدو جلياً من مطالعة عنوان كتاب المؤلف السويسري «الكسندر شولش» (Alexander Schölch)، والذي قام بترجمته الدكتور رءوف عباس، وصدر تحت عنوان «مصر للمصريين: أزمة مصر الاجتماعية والسياسية 1878 – 1882». وفي المجال الاقتصادي، رفع رائد الاقتصاد المصري محمد طلعت حرب شعار «مصر للمصريين»، قاصداً من ذلك الحد من السيطرة الاقتصادية الأجنبية على ثروات مصر الطبيعية، لاسيما إنتاج القطن وتصنيعه في معامل غزل ونسيج في بريطانيا. إذ رأى طلعت حرب أنه لا يمكن لأي دولة أن تكون قوية إذا كان اقتصادها ضعيفاً ومسيطراً عليه من قبل الاستعمار والقوى الخارجية. رأى أن تأسيس بنك مصر هو الخطوة الأولى في تحدى الاستعمار وإنهاء الهيمنة الغربية على الاقتصاد المصري. ومن وجهة نظره، فإن تأسيس هذا البنك الوطني من شأنه أن يسهم في توفير رأس المال اللازم لإقامة مشاريع اقتصادية جديدة تكون مهمتها تحدى الاحتكارات الاقتصادية الخارجية. وهكذا، وفي أعقاب ثورة 1919م، وتحديداً في العام 1920م، قام طلعت حرب بتأسيس بنك مصر». ويمكن القول إن هذه الأفكار كانت هي التطبيق العملي لأفكار طلعت حرب، والتي ضمنها في كتابه المعنون «علاج مصر الاقتصادي»، والذي خرج إلى النور في العام 1911م. وعلى هذا النحو، يبدو جلياً أن قصد طلعت حرب من وراء شعار «مصر للمصريين» هو أن الشعب المصري أولى بثروات بلاده من الأجنبي المحتل. ولم تكن ثمة علاقة لهذا الشعار بالجانب السياسي أو بالهوية الوطنية. ولذلك، ورغم النزعة الوطنية الواضحة لدى طلعت حرب، فإن ذلك اقترن بإدراك عميق لأهمية التمسك بهوية مصر الإسلامية ولغتها العربية وأصالة ثقافتها الشرقية. فقد استخدم اللغة العربية والهندسة المعمارية المستوحاة من التراث الإسلامي في البنك وشركاته يعد من آليات مواجهة الاستعمار لتعزيز ثقة المصريين بأنفسهم في وقت كانت فيه اللغات الفرنسية والإنجليزية سائدة في المعاملات الاقتصادية والمالية. وقام طلعت حرب بنشر العديد من الكتب، كان أولها كتابان يتعلقان بالدفاع عن الهوية الإسلامية في العقد الأخير للقرن التاسع عشر، وهما: «كلمة حق على الإسلام والدولة العليا» و«تاريخ دول العرب والإسلام». وفى خضم معركته الأدبية والفكرية مع قاسم أمين، أصدر كتاب «تربية المرأة والحجاب» (1898) وكتاباً آخر بعنوان «فصل الخطاب في المرأة والحجاب» (1900)، وذلك رداً على قاسم أمين الذي دعا لتحرير المرأة ونزع الحجاب. وهذا الاعتزاز بالهوية الوطنية والدفاع عن الهوية الإسلامية جاء ممزوجاً بالتسامح بين الأديان الإبراهيمية. فإذا كان طلعت حرب مسلماً متديناً جداً، إلا أنه في الوقت نفسه كان متسامحا جداً مع بقية أتباع الديانات الأخرى، مقدماً نموذجاً متميزاً للتسامح وكيف يمكن لأتباع هذه الديانات أن يتعايشوا بسلام ومحبة. ولعل هذا يبدو جلياً في تجربة تأسيس بنك مصر، حيث كان أول رئيس مجلس إدارة في بنك مصر هو يوسف أصلان القطاوى باشا، وهو رئيس الطائفة اليهودية في مصر. كذلك، كان أفضل أصدقاء طلعت حرب من أبناء الديانات المسيحية واليهودية في مصر، مثل عضو البرلمان أمين إسكندر وشقيقه راغب، وهم من المسيحيين.. وكان له مجلس ثقافي (صالون) في داره في حي العباسية في القاهرة، يجتمع فيه المسيحيون واليهود بشكل دائم أسبوعياً. ومن ناحية أخرى، أطلق الزعيم الوطني مصطفى كامل (1874- 1908) عبارته المشهورة «لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً». وفيما يتعلق برؤيته للهوية الوطنية المصرية، كان للزعيم الوطني مصطفى كامل ما وُصِف بـ «ولاءات معقدة» فيما يخص كون مصر ولاية عثمانية تتمتع بالحكم الذاتي في ظل أحفاد محمد علي، وذلك قبل احتلال بريطانيا لمصر عام 1882. فكما هو الشأن بالنسبة لمعظم المصريين من أبناء جيله، رأى مصطفى كامل الخديويين حكاماً شرعيين لمصر، والذين بدورهم دانوا بالولاء للخليفة العثماني في القسطنطينية. كما دعا الخديوي عباس حلمي لمنح سلطة حكومة دستورية للشعب. ومثل العديد من القوميين المصريين الآخرين في أوائل القرن العشرين، افتخر مصطفى كامل بإنجازات الحضارة المصرية القديمة، والتي أظهرت بالنسبة له أن مصر لديها تاريخ قومي يعود إلى آلاف السنين، وهو ما ميز المصريين عن غيرهم من الشعوب. ومتأثراً بالفيلسوف الفرنسي، «إرنست رينان» (Ernest Renan)، الذي يرى أن ما يُعَرِّف الأمة هو «الإرادة للعيش معا» (Le désir d’être ensemble)، أكد مصطفى كامل أن المصريين منذ آلاف السنين يريدون العيش معاً في دولة واحدة. وكانت حجة الزعيم الوطني في هذا الشأن أن توحيد مصر العليا والسفلى، حوالي 3100 قبل الميلاد، مثَّل ولادة مصر كدولة. وقد استند إحساسه القومي المصري على الولاء لمصر كدولة وكيان جغرافي. وتناقض ذلك مع بعض الآراء الإسلاموية التي رأت أن تاريخ مصر قبل الفتح الإسلامي 639-642 م كان فترة من «الجاهلية». ومثل العديد من القوميين المصريين الآخرين في القرن التاسع عشر، اعتز كامل باكتشافات علماء الآثار الذين كشفوا أنقاض مصر القديمة، وقدَّم التاريخ المصري من زمن الفراعنة إلى الوقت الحاضر باعتباره تاريخاً واحداً يجب أن يفخر به جميع المصريين. ورأى كامل أن محمد علي لم يقم سوى بإعادة مصر إلى مكانتها التاريخية كقوة عظمى، والتي بدأت مع أيام الفراعنة. وكان مصطفى كامل فخوراً بأصله المنتمي إلى الفلاحين، ورأى نفسه مصرياً في المقام الأول، ثم تابعاً للإمبراطورية العثمانية بعد ذلك بمسافة كبيرة. وكان موقف كامل من دور الإسلام في الحياة المصرية مرناً للغاية، اعتماداً على جمهوره المُخاطَب، حيث قال في إحدى المرات إن الإسلام هو حجر الزاوية في الهوية الوطنية المصرية، وفي أوقات أخرى أكد أن حب الوطن هو ما يجعل المرء مصرياً، وهو ما يجعل الأقباط واليهود المصريين على قدم المساواة مع المسلمين. ومال مصطفى كامل إلى اعتبار الوطنية المصرية مدعومة من قبل الإسلام، بدلاً من كونها مبنية على الإسلام. وعلى الرغم من أن مصطفى كامل لم يكن على استعداد لرفض الخطاب القومي الإسلامي الخاص بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1842- 1918)، كانت تميل كتاباته إلى القول بأن مسلمي مصر لديهم من القواسم المشتركة مع بعضهم البعض أكثر مما لديهم مع المسلمين من الأراضي الأخرى، ورأى الإسلام كوسيلة لتوحيد الشعب المصري وليس كغاية. ودعم مصطفى كامل رؤية عبد الحميد القومية الإسلامية باعتبارها أفضل طريقة لجعل الإمبراطورية العثمانية داعمة لمصر، منادياً بإنشاء أو بالأحرى إعادة إنشاء «الجامعة الإسلامية»، على أمل أن يقنع السلطان العثماني البريطانيين بمغادرة مصر، لكنه رفض احتلال مصر من قبل العثمانيين مرة أخرى. المطلب الرابع النزعة الوطنية والظروف السياسية الواقع أن غلبة الاتجاه الوطني المصري في دستور مملكة مصر والسودان الصادر عام 1923م ودستور الدولة المصرية الصادر سنة 1930م يبدو مفهوماً في ظل الظروف السياسية التي كانت سائدة آنذاك، حيث كانت مصر ترزح تحت الاحتلال الإنجليزي البغيض للبلاد. وفي ظل الاحتلال، فإن الشعور بالوطنية وشعور الأنا في مواجهة الآخر يبدو هو الشعور الغالب والأساسي. ومع غلبة الشعور بالوطنية، ينزوي أو يختفي ولو مؤقتاً أي مسعى آخر بالانتماء إلى أي قومية أو مجموعة أخرى. فالمهم في هذه المرحلة هو الحصول على الاستقلال وغلبة الروح الوطنية، ولا مجال للحديث عن أي انتماء آخر. وللتدليل على صحة ما نقول، نرى من الملائم أن نذكر هنا ما سطره الأديب الكبير توفيق الحكيم في مقدمة كتابه «مصر بين عهدين»، حيث يقول: عندما انتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة الدولة العثمانية، ولم يبق لها من وضع سياسي إلا الواقع وحده، وهو الاحتلال الإنجليزي، ذهب زعماء مصر سنة 1919 يسألون الانجليز عن وضعهم، فسألهم الانجليز عما يقصدون، فقالوا: زوال الاحتلال الإنجليزي … فلما سألهم الانجليز: وبعد الاحتلال هل تعودون إلى سيادة الدولة العثمانية المنهزمة؟ فقالوا: لا، بل تعود مصر إلى مصر … فدهش الانجليز وسألوا: وما هي مصر!؟ إننا لا نعرف شيئاً اسمه مصر، ولكن فقط مجرد قطر اسمه «القطر المصري» كما هو موجود على الخرائط الرسمية … يتبع سياسياً الدولة العثمانية، وحضارياً «الحضارة العربية» حسب اللغة والدين… أما مصر، فأين هي؟ وما هي مقوماتها؟ … وما هي شخصيتها؟ … وكانت الإجابة عسيرة… وعندئذ قام رجال الفكر والفن والاقتصاد يجيبون عن السؤال ويبحثون عن مصر… قام طلعت حرب بإنشاء بنك باسم بنك مصر… ونهض رجال الأدب والفن يصورون «مصر» ويعبرون عنها… كل ذلك ليجيبوا عن سؤال الانجليز ويقولوا لهم: ها هي ذي «مصر» التي نريد لها الاستقلال بأرضها… فالبحث إذن في العشرينات عن «شخصية مصر» و«روح مصر» لم يكن المقصود به كما حدث أخيراً مجرد موضوع يستهدف الدراسة والكتابة والتأليف… بل كان في أعقاب 1919 أمراً حيوياً خارجاً من ضرورة ملحة… من صميم كياننا… وهو إقناع من ينكر علينا وجودنا وحقنا في هذا الوجود (راجع: توفيق الحكيم، مصر بين عهدين، مكتبة الآداب ومطبعتها، القاهرة، د. ت، ص 15 وما بعدها). وهكذا، وفي ظل هذه الأوضاع السياسية، كان من الطبيعي أن ينصب تركيز النخبة السياسية والقانونية المصرية آنذاك على إبراز ذاتية مصر تجاه الآخر، أياً كان هذا الآخر، وسواء تعلق الأمر بالمحيط الجغرافي متمثلاً في «الأمة العربية» أو «الحضارة العربية»، أو تعلق بالاحتلال العثماني أو ما يطلق عليه البعض «الخلافة العثمانية» وما تمثله من فكرة الهوية الإسلامية الجامعة. ويبدو أن هذه الجهود قد نجحت جزئياً، حيث صدر تصريح 28 فبراير 1922م، والذي تضمن إنهاء الحماية البريطانية على مصر والاعتراف بمصر دولة مستقلة، وتم تغيير اسم الدولة إلى السلطنة المصرية، الأمر الذي مهد لصدور أول دستور مصري عام 1923م. وتبقى ملاحظة أساسية في هذا الصدد، وتدور حول السبب وراء صدور دستور 1923 تحت مسمى «دستور مملكة مصر والسودان»، بينما صدر دستور 1930 تحت عنوان «دستور الدولة المصرية»، بحيث اختفت الإشارة إلى السودان من مسمى الدستور، وما إذا كان ذلك قد تم تحت ضغط وإيعاز من الاحتلال البريطاني الذي كان جاثماً على صدر مصر آنذاك. المطلب الخامس الهوية الوطنية المصرية والقداسة الدينية حظي اسم «مصر» بالتشريف والتكريم، من خلال ذكره في القرآن الكريم. بيان ذلك أن اسم «مصر» ورد ذكره صراحة في القرآن الكريم في خمسة مواضع، فيما ذكرت بالإشارة إليها في أكثر من ثلاثين موضعاً وبعض العلماء عدّها ثمانين موضعاً. وبالتدبر والتمعن في هذه الآيات المباركات، يبدو جلياً تكريم الله عز وجل لمصر. كذلك، ورد اسم مصر تصريحاً وتلميحاً في العديد من الآيات في العهدين القديم والجديد. إذ يؤكد البعض أن اسم «مصر» قد ورد في 697 آية، منهم 670 آية في العهد القديم والأسفار القانونية الثانية، و27 أية في العهد الجديد. ومن ثم، فإن الشعور بالانتماء إلى مصر، وتعزيز الهوية الوطنية المصرية يجد له سنداً من القرآن الكريم ومن النصوص الواردة في غيره من الكتب السماوية. ونعتقد بالتالي أن دعاة الهوية الإسلامية ودعاة القومية القبطية قد يجدون في عقيدتهم الدينية ما يبرر لهم ويسوغ لهم شعور الفخر بالانتماء إلى الدولة المصرية. الإشارات إلى مصر في العهد القديم كما سبق أن قلنا، يؤكد البعض أن اسم مصر قد ورد في 670 آية في العهد القديم والأسفار القانونية الثانية. الإشارات إلى مصر في العهد الجديد كما سبق أن قلنا، يؤكد البعض أن اسم مصر قد ورد في سبع وعشرين آية من العهد الجديد. الإشارات الصريحة إلى مصر في القرآن الكريم مصر هي البلد الوحيد الذي ذُكر في القرآن الكريم خمس مرات صراحة. والمواضع الخمسة الصريحة وردت في الآيات التالية، وهي: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا؛ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ؛ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ؛ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ؛ وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ. الإشارات الضمنية إلى مصر في القرآن الكريم بالإضافة إلى الإشارات الصريحة الواردة في القرآن الكريم إلى مصر، وردت الإشارة إليها ضمنياً – أو على حد قول البعض بالتلميح – في أكثر من ثلاثين مرة‏، وهو أمر لم يكن لأي دولة أخرى في القرآن الكريم‏. بل إن البعض قد عد ثمانين موضعاً وردت فيها الإشارة ضمناً إلى مصر في القرآن الكريم. وآيات التلميح لها مواطن كثيرة متفرقة، ومن ذلك قوله تعالى: وَالطُّورِ. وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ. وقوله سبحانه: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ. وقوله عز وجل: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. فالإشارات الواردة إلى الطور وطور سيناء وطور سينين هي في حقيقتها إشارة إلى مصر باعتبار أن جبل الطور يقع في شبه جزيرة سيناء المصرية. مظاهر تكريم مصر في القرآن الكريم بالتدبر في الآيات القرآنية سالفة الذكر، نجدها أن اسم مصر قد ورد بها في مقام المدح والخير والبركة. فالتكريم لا يرجع فحسب إلى مجرد ورود اسمها في القرآن الكريم، وإنما التكريم مستمد من مقام المدح أو مقام التعظيم أو التشريف. فلا يجوز إذن التسوية بين ورود اسم مصر في القرآن الكريم وبين ورود الإشارة إلى قوم لوط، كما يقول أعداء الوطن وأعداء الدين. وقد استدل العلماء من تكرار ذكر اسم مصر في القرآن الكريم على العديد من المعاني الإيجابية. فمن ناحية أولى، يستدل بعض العلماء من ذكر اسمها في القرآن الكريم أنها الدولة الوحيدة الضاربة في عمق التاريخ. ويمكن الاستدلال من خلال الوقائع الواردة في القرآن الكريم بشأنها أن مصر كانت لها دائماً الحدود ذاتها التي هي موجودة عليها في الوقت الحالي. فقد جاء يوسف وإخوته من أرض فلسطين الحالية إلى أرض مصر. ومن ناحية أخرى، يرى بعض العلماء أن مصر بها تمكين وعلم، وظهر ذلك في سورة يوسف، مستدلين على ذلك بأن الله سبحانه وتعالى أراد ليوسف نوعاً من التمكين بأن جعله على خزائن الأرض التي هي مصر. وجعلها الله سلة غذاء العالم وخزائن الأرض، وجاء إليها الناس من كل فج عميق؛ ليأخذوا نصيبهم من الغذاء، بفضل مشورة سيدنا يوسف الذي أنقذ مصر والعالم من المجاعة حينما ادخر القمح وخزَّنه في سنابله. قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ. ويقول الإمام ابن كثير في تاريخه: .. في عام الرمادة – والجوع والفقر يحاصران الأمة الإسلامية – كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، لعمرو بن العاص حاكم مصر – رضي الله عنهما: «واغوثاه.. واغوثاه.. واغوثاه»، فقال عمرو بن العاص: «.. والله لأرسلن قافلة من الأرزاق أولها في المدينة، وآخرها عندي في مصر». كما شرَّفها الله بأن أرسلت كسوة الكعبة المشرفة على المحمل العظيم لألف عام. قال سعيد بن أبي هلال: مصر أم البلاد، وغوث العباد. وذكر أن مصر مصورة في كتب الأوائل، وسائر المدن مادة أيديها إليها تستطعمها. وأجمع أهل المعرفة: أن أهل الدنيا مضطرون إلى مصر يسافرون إليها، ويطلبون الرزق، وأهلها لا يطلبون الرزق في غيرها!! قال الجاحظ: إن أهلها يستغنون عن كل بلد حتى لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا سور لغني أهلها بما فيها عن سائر بلاد الدنيا. ومن ناحية ثالثة، فإن مصر هي أرض السلام والطمأنينة، ويمكن الاستدلال على ذلك بقوله سبحانه وتعالي ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ. وهكذا، شاء الله تعالى أن تكون مكة البلد الحرام، ومصر بلاد الأمن والأمان، قال تعالى: لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا. وقال سبحانه: ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. وكلمة (آمِنِينَ) لم تأت في القرآن إلا في هذين الموضعين، ومن ثمَّ فقد خصَّ اللهُ مصرَ بما خصَّ به البلد الحرام من الأمن والأمان. ومن ناحية رابعة، استدل العلماء على تكريم مصر وعلو شرفها بأن ذكرها جاء صريحاً في القرآن الكريم، وأقسم بها الله تعالى قبل أن يُقسم بالبلد الحرام أو على أقل تقدير اقترن القسم بها بالقسم بالبيت الحرام. والمراد بذلك هو قوله تعالي في سورة التين: وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيۡتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ ٱلۡأَمِينِ. ففي تفسير هذه الآيات الثلاث من بداية سورة التين، قيل وَهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ ٱلۡأَمِينِ يعني مكة. قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وإبراهيم النخعي وابن زيد وكعب الأحبار. ولا خلاف في ذلك. وقال بعض الأئمة: هذه محال ثلاثة، بعث الله في كل واحد منها نبياً مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار، فالأول: محلة التين والزيتون، وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها سيدنا عيسى ابن مريم. والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه سيدنا موسى بن عمران. والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا، وهو الذي أرسل فيه سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم. قالوا: وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة: جاء الله من طور سيناء – يعني الذي كلم الله عليه موسى [بن عمران] – وأشرق من ساعير – يعني بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى – واستعلن من جبال فاران – يعني: جبال مكة التي أرسل الله منها محمدا – فذكرهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان، ولهذا أقسم بالأشرف، ثم الأشرف منه، ثم بالأشرف منهما. مصر ومصراً يميز العلماء والمفسرون بين كلمة «مصر» ممنوعة من الصرف، كما هو الشأن في الإشارات الصريحة سالفة الذكر، وبين كلمة «مصر» الواردة بالقرآن الكريم في شكل التنوين. والمراد بذلك هو قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ. ففي هذه الآية المباركة، جاءت كلمة «مِصْراً» بالتنوين، وهي قراءة الجمهور. قال ابن جرير: «.. ولا أستجيز القراءة بغير ذلك لإجماع المصاحف على ذلك». وقال ابن عباس: اهْبِطُوا مِصْراً أي من الأمصار. وبناء عليه، لا تدل على مصر الكنانة، وإنما تعني أي مدينة متحضرة في أي مكان، حيث جاءت مفعولاً به منصوباً وهي منونة (مِصْراً)، وهو موضع واحد فقط. يقول ابن كثير: «والحق أن المراد: مصر من الأمصار، وليس مصر فرعون كما رُوي عن ابن عباس وغيره، والمعنى على ذلك؛ لأن موسى (عليه السلام) يقول لهم: الذي سألتموه ليس بأمر عزيز؛ بل هو كثير في أي بلد دخلتموه وجدتموه» كما جاء في تفسير ابن كثير. خلافاً لذلك، وفي المواضع الخمسة الأخرى، جاءت كلمة (مِصْرَ) ممنوعة من الصرف (أي غير منونة)؛ لتدل على (مِصْرَ) الكنانة، أي: الوطن الذي يعيش فيه المصريون. وهذه تفرقة لغوية دقيقة بين (مِصْرَ)، و(مِصْراً).. ويسجل القرآن الكريم اعتراف اللغة العربية بعراقة مصر وحضارتها التي تضرب بجذورها طولاً وعرضاً وعمقاً في أعماق التاريخ. والناظر في حال الأمم والدول التي ورد ذكرها في كتاب الله الخالد، يلحظ أن التاريخ طواها في وثائقه وجسَّد آثارها في متاحفه، وبقيت مصر معززة مُكرمة مُشرَّفة في كتاب الله الخالد. المطلب السادس النزعة الوطنية والاكتشافات الفرعونية في النصف الأول من سنة 1798م، أرسل نابليون بونابرت فرقة من حملته على مصر إلى قلعة قايتباى، نجحت في دخولها، وأطلق الفرنسيون عليها اسماً جديداً، هو «حصن سان جوليان». وقد أحدثت الحملة الفرنسية الكثير من المتغيرات على القلعة، الأمر الذي أدى إلى طمس الكثير من معالمها القديمة، حيث سدت منافذ المزاغل الثلاثة في كل من البرجين الشمالي الغربي والجنوبي الغربي، ثم أقامت في كل برج مزغلين صغيرين لاستخدام البنادق، في كل مزغل ست فتحات للبنادق، يعلوها في السقف فتحتان للتهوية باستخدام الطوب الأحمر، وأغلقت الممرات الموجودة في المزاغل، بحيث أصبحت صماء، وأضيف حمام للقائد بوشار في البرج الكبير الذي كان مخصصاً لإقامة الجنود، ودعمت الأبراج في الدور الأرضي بالطوب الأحمر. وفي سنة 1799م، كان القائد الفرنسي بوشار مكلفاً بالعمل في ترميم قلعة قايتباي أو قلعة سان جوليان كما أسماها الفرنسيون. وأثناء العمل في ترميم القلعة، وفي التاسع عشر من شهر يوليو سنة 1799م، عثر أحد جنود الحملة على حجر أثري مبنى في جدار قديم كان لابد من هدمه لوضع أساس «قلعة سان جوليان». ويبلغ طول الحجر الذي تم العثور عليه 115 سم وعرضه 73 سم وسمكه 27.5 سم، وقمته العليا وزواياه من الشمال واليمين مفقود منها بعض الأجزاء، ويرجح بعض العلماء أنه كان مستديراً في أعلاه على نحو ما هو معروف عن «حجر كانوب» في عصر البطالمة، وهو حجر من البازلت الأسود، ويشمل ثلاث كتابات من أعلى إلى أسفل الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية، ويرجع تاريخه إلى عام 196 ق.م في أيام الملك بطليموس الخامس الذي حكم مصر ما بين 203 و181 ق. م. وسرعان ما علم قنصل الإسكندرية المستر هاريس بذلك، إلا أن الجنرال مينو أمر بإحضار الحجر إلى منزله بالإسكندرية بعد أن نظفوه واعتنوا به ونقلوه إلى القاهرة، وألقى عليه نابليون بونابرت نظرة إعجاب وسرعان ما أذيع خبره في العالم، وأصبح معروفاً منذ ذلك الحين باسم «حجر رشيد» أو ما يطلق عليه باللغة الإنجليزية (Rosetta Stone). وبعد اكتشافه، تبادر إلى اعتقاد المكتشفين أن الحجر يتضمن نصّاً واحداً بخطوط ثلاثة مختلفة، واتضح فيما بعد أن اعتقادهم كان صائباً. وبعد نقله إلى القاهرة، أمر قائد الحملة نابليون بونابرت بإعداد عدة نسخ منه، لتكون في متناول المهتمين بالحضارة المصرية في أوربا بوجه عام وفي فرنسا على وجه الخصوص. وهكذا، حصل العالم الفرنسي «شامبليون» على نسخة من الحجر، كما حصل عليها غيره من الباحثين، وعكف على دراسته مبدياً اهتماماً شديداً بالخط الهيروغليفي، ومعتمداً على خبرته الطويلة في اللغة اليونانية القديمة، وفي اللغات القديمة بوجه عام. وبدأ العلماء في دراسة الحجر منذ العام 1805م، حيث عكف الباحثون أولاً على ترجمة النص اليوناني، وأبدى الباحثان «سلفستر دى ساسى» و«أكربلاد» اهتماماً خاصّاً بالخط الديموطيقى. وجاءت أولى الخطوات الهامة في مجال الخط الهيروغليفى على يد العالم الإنجليزي «توماس يونج»، الذي حصل على نسخة من حجر رشيد عام 1814، والذي افترض أن الخراطيش الموجودة في النص الهيروغليفى تحتوي على أسماء ملكية. واعتمد على نصوص أخرى مشابهة، كالمسلة التي عثر عليها في فيلة عام 1815م والتي تتضمن نصّاً باليونانية والآخر بالهيروغليفية. ورغم كل الجهود السابقة في فك رموز حجر رشيد، إلا أن الفضل الأكبر يرجع للعالم الفرنسي «جان فرانسوا شامبليون» (1790- 1832). وكان على شامبليون أن يواجه مجموعة من الافتراضات: أولها، استجلاء ما إذا كانت الخطوط الثلاثة (الهيروغليفية – الديموطيقية – اليونانية) تمثل ثلاثة نصوص مختلفة من حيث المضمون، أم أنها تمثل موضوعاً واحداً ولكنه كتب بالخط الرسمي (الهيروغليفى)، وخط الحياة اليومية السائدة في هذه الفترة (الديموطيقى)، ثم بلغة اليونانيين الذين كانوا يحكمون مصر. أما ثانيها، فيتعلق ببنية اللغة المصرية، وما إذا كانت تقوم على أبجدية، أي مجموعة من الحروف، كما هو الشأن في اللغات الحية، أم أنها كتبت بعلامات تراوحت قيمتها الصوتية بين حرف وحرفين أو ثلاثة أو ربما أكثر. وثالثها، بيان ما إذا كانت هذه الكتابة قد عرفت حروف الحركة، وبيان ما إذا كانت العلامات تصويرية أم صوتية، وماهية الأدوات التي استخدمها المصري القديم لتحديد معنى المفردات، وهل استخدمت المخصصات والعلامات التفسيرية؟ ولابد أن هذه الافتراضات والتساؤلات وغيرها كانت تدور في ذهن «شامبليون» وهو يتعامل مع الحجر، ولابد أنه قد استرعى انتباهه أن هناك أكثر من خط للغة المصرية القديمة، فضلاً عن تساؤلات منها: هل هناك علاقة خطية بين الهيروغليفية والهيراطيقية والديموطيقية؟ وهل هناك من علاقة لغوية في مجال القواعد والصرف؟ ثم هذه العلامات الأسطوانية في النص الهيروغليفى، والتي تحيط ببعض العلامات الهيروغليفية- والتي عرفناها فيما بعد باسم الخرطوش- ماذا تعنى؟ وفي محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات وتفكيك هذه الطلاسم والافتراضات سالفة الذكر، قرأ شامبليون النص اليوناني وفهم مضمونه وقرأ اسم الملك بطليموس، والواضح أنه سلك منهج الاعتماد على أسماء الأعلام غير القابلة للتغيير، وتحرك من فرضية أن هذا المرسوم الذي صدر في عهد الملك بطليموس الخامس عام 196 ق.م، لابد أنه قد كتب إلى جانب اليونانية بخطين من خطوط اللغة الوطنية. ولابد أن اسم بطليموس باليونانية سوف يتكرر في الخطين الهيروغليفى والديموطيقى. وفى ظل إدراك «شامبليون» بأن الحروف الساكنة لأسماء الأعلام لا تتغير مهما تعددت اللغات التي كتبت بها، ففي العربية نجد اسماً مثل «مجدي» لا يمكن للحروف الأولى الثلاثة أن تسقط، وكذلك «حسن» وإن خفت بعض الحروف أو انقلبت أو أُبدلت، إلا أن الصعوبة سوف تتمثل في حروف الحركة التي تحدد نطق السواكن بالفتحة أو بالضمة أو بالكسرة. ولخلو اللغة المصرية القديمة من حروف الحركة يجئ الاختلاف في نطق السواكن، إلا أن القبطية التي ظهرت فيها حروف الحركة حسمت الأمر إلى حد كبير. وقد لاحظ شامبليون أن حجر رشيد تضمن خرطوشاً واحداً تكرر ست مرات، ضم اسم الملك «بطليموس»، وهو الاسم الذي ورد على مسلة «فيلة»، بالإضافة إلى اسم «كليوباترا». وقد سجل «شامبليون» العلامات الواردة في خرطوش «بطليموس» ورقمها وفعل نفس الشيء بالنسبة لخرطوش «كليوباترا» الوارد على مسلة فيلة، نظراً لاشتراك الاسمين في القيمة الصوتية لبعض العلامات، كالباء والتاء واللام. وسجل نفس الاسمين باليونانية، ورقم كل حرف منها، وقابل العلامة الأولى من اسم «بطليموس» بالهيروغليفية وما يقابلها في اسمه باليونانية. وبذلك، تمكن «شامبليون» من أن يتعرف على القيمة الصوتية لبعض العلامات الهيروغليفية، اعتماداً على قيمتها الصوتية في اليونانية. وبمزيد من الدراسات المقارنة، تمكن «شامبليون» من أن يتعرف على القيمة الصوتية لكثير من العلامات. وفى السابع والعشرين من شهر سبتمبر عام 1822م، وبعد جهد كبير استغرق ثلاثة وعشرين عاماً، أعلن «شامبليون» على العالم أنه تمكن من فك رموز اللغة المصرية القديمة، وأن بنية الكلمة في اللغة المصرية لا تقوم على أبجدية فقط، وإنما تقوم على علامات تعطى القيمة لحرف واحد وأخرى لاثنين وثالثة لثلاثة، وأكد استخدام المخصصات في نهاية المفردات لتحديد معنى الكلمة. وهكذا وضع «شامبليون» اللبنات الأولى في صرح اللغة المصرية القديمة. وجاء من بعده المئات من الباحثين الذين أسهموا في استكمال بناء هذا الصرح الشامخ. ومع إعلان العالم الفرنسي جان فرانسوا شامبليون نجاحه في فك رموز الحجر، بدأت اللبنة الأولى في تأسيس علم المصريات، لفهم تاريخ مصر الفرعونية، وحضارتها الممتدة لأكثر من سبعة آلاف سنة. فحتى هذ التاريخ، كانت اللغة المصرية القديمة ليست سوى نقوش ورسوم مبهمة في البرديات وعلى جدران المعابد والمسلات، لا يستطيع أحد فك طلاسمها الغامضة، على اعتبار أنها لغة قديمة طالها الاندثار، لا يتحدثها أو يكتبها أحد في مصر الحديثة. وهكذا، ومع اكتشاف حجر رشيد، بدأ الغموض ينجلي عن الحضارة المصرية، وأخذ علم المصريات يشق طريقه بقوة بين العلوم الأخرى. ومع كل هذه الأهمية التي يضطلع بها هذا الحجر بالنسبة لعلم المصريات وتاريخ مصر بأجمعه، فإن حجر رشيد غير موجود في مصر. فقد بات معروضاً منذ قرنين من الزمان في المتحف البريطاني بلندن، بعدما سلمه الفرنسيون للبريطانيين عام 1801 بموجب الاتفاقية المبرمة بين الجانبين، والمعروفة باسم اتفاقية العريش، بعدما تمكنت بريطانيا من دخول مصر وهزيمة جيش نابليون، حيث قام الانجليز بنقل الحجر وبعض الآثار الأخرى إلى لندن في فبراير 1802، حيث يوجد منذ ذلك التاريخ في المتحف البريطاني بلندن. ومنذ دخول الحجر إلى المتحف البريطاني، لم يخرج منه سوى مرة واحدة، ولمدة شهر في أكتوبر عام 1972م، حيث انتقل إلى متحف اللوفر بباريس بمناسبة مرور 150 عاماً على فك رموزه. ورغم وجود حجر رشيد في قارة أخرى، بعيداً عن موطنه، فإن الحجر لم يغب يوماً عن الضمير المصري، باعتباره من أبرز وأهم رموز الحضارة المصرية القديمة الموجودة خارج البلاد. إذ تكمن أهميته في رمزيته للغة المصرية القديمة وللهوية المصرية ككل. إذ أن فك رموز الحجر كان الدليل الذي فتح الباب على مصراعيه لاحقاً لفهم تاريخ مصر القديمة، وحل الكثير من ألغازها، التي لاتزال تبهر العالم حتى اليوم. وبعبارة أخرى، فإن حجر رشيد لم يكن مجرد قطعة حجرية صماء تعتريها نقوش لثلاث كتابات مختلفة ولغتين مختلفتين، لكنه كان بداية انطلاق اللغة المصرية القديمة وخروجها من محبسها الصامت. وتعود قصة هذا الحجر إلى أنه بعد وفاة بطليموس الثالث 221 ق.م بدأت دولة البطالمة تتحدث عما ارتكبه بطليموس الرابع من الفظائع، ولما توفى عام 204 ق.م قامت فتن داخلية أدت إلى إبادة الكثير من رجال الحاشية حتى تدخل الرومان وثبتوا دعائم بطليموس الخامس، وقضى على الفتنة 198 ق.م وأعادوا إلى الكهنة امتيازاتهم التي فقدوها في عهد أبيه، وأجزل لهم العطايا، وأصدر عفواً عن جميع من قاموا ضده من المصريين، ورد إليهم ممتلكاتهم، فأقيم احتفال كبير في ممفيس لشكر ومبايعة الملك بالطاعة، ونقش محضر بذلك على الحجر بحضور رؤساء الكهنة والكتّاب، وكان من الضروري وضعه في المعابد من الدرجة الأولى حتى الثالثة بجوار تمثال الملك. وعلى هذا النحو، فإن الحجر يحمل رسالة شكر تعود لعام 196 قبل الميلاد، وكانت موجهة حينها من كهنة مصر للملك بطليموس الخامس لكرمه مع الشعب المصري. ولأن الملك كان يونانياً مقدونياً لا يجيد الهيروغليفية، نسخ الكهنة رسالتهم إليه باللغات الثلاث. وإذا كان الحجر في بداية وجوده ونشأته، قد كان مرسوماً كهنوتياً، فقد تحول إلى إعلان تنويري عن أعرق الحضارات العالمية. وعلى هذا النحو، يبدو سائغاً القول إن من حسن حظ الحضارة المصرية الكشف عن حجر رشيد عام 1799م، ذلك الحجر الذي ضم مفاتيح اللغة المصرية القديمة، والذي لولاه لظلت الحضارة المصرية غامضة لا ندرى عن أمرها شيئاً، لأننا لا نستطيع أن نقرأ الكتابات التي دونها المصريون القدماء على آثارهم. ولذلك، كان من الطبيعي أن يحتفي المصريون العالم الفرنسي شامبليون، وأن يتم إطلاق اسمه على أحد شوارع القاهرة الخديوية. ومن ناحية أخرى، وفي الفترة الزمنية ذاتها تقريباً، وعلى وجه التحديد في عام 1813م، وأثناء زيارة الرحالة والمستكشف السويسري «يوهان لودفج بورخارت» إلى جنوب مصر لاستكشاف شلالات النيل، وأثناء مروره أمام معبد أبو سمبل الذي كان مردوماً بالرمال فيما عدا بعض وجوه التماثيل، لم يكلف خاطره بالنزول لرؤية هذه الوجوه واكتفى بذكر ما رأى في مذكراته، قائلاً: «رأيت وجوه تماثيل تشبه التماثيل الإغريقية». ويبدو أن دفن الرمال لمعبد أبو سمبل كان هو السبب الرئيسي لعدم ذكره ضمن عجائب الدنيا القديمة، إلا أنه بعد مرور أربع سنوات، جاء المستكشف الإيطالي الصقلي المولد جيوفاني بلزوني، وبعد اطلاعه على مذكرات بورخارت، قام برحلة استكشافية إلى أعالي النوبة، وعقب وصوله لموقع معبد أبو سمبل، وفى عز صيف أغسطس 1817م، استأجر بلزوني عمالاً من المنطقة، وقام بإزاحة الرمال من على تماثيل الواجهة حتى داخل المعبد، واكتشف صالاته وردهاته إلى أن وصل إلى قدس الأقداس الخاص بالمعبد الذى توجد به تماثيل الآلهة إلى جانب تمثال رمسيس الثاني». وقام بلزونى بتخليد ذكراه وتقليد الفراعنة بحفر اسمه في الحائط الشمالي لقاعة قدس الأقداس الخاصة بالمعبد، وهي آخر غرفة، ليعلن عن وصوله واكتشافه للمعبد، والذي بقي صامداً لآلاف السنين، متحدياً كل الظروف البيئية وتقلبات الزمن من فيضانات النيل واضطرابات النهر ووعورة المنطقة الصحراوية. وبعد أكثر من قرن على اكتشاف معبد أبو سمبل، وفي الرابع من شهر نوفمبر 1922م، تم اكتشاف قدس أقداس الاكتشافات الفرعونية، ونعني به اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون. وفي قصة هذا الاكتشاف، تقول الرواية: وقف الصبي الصغير بحماره الذي كان ينقل عليه المياه من نهر النيل إلى أهله من أبناء عبد الرسول الذين يعملون في الحفائر بوادي الملوك بالأقصر أوائل القرن الماضي، بعد أن اكتشف أن المياه تتساقط من الجرار التي يحملها، فقرر إعادة ربطها، ولدى وضعه أحد الجرار على الأرض، ارتطمت بشيء صلب، فكشف عنه بفأسه الصغير، واتضح أنها درجة سلم. وعلى الفور، قام الصبي بإبلاغ الرجل البريطاني الذي قارب على اليأس من البحث عن مقبرة توت عنخ آمون طوال خمس سنوات طويلة، «هوارد كارتر»، الأمر الذي دفع اللورد جورج كارنارفون إلى التهديد بوقف تمويل بعثته. وعلى الفور، توجه كارتر إلى مكان درجة السلم وتم الكشف عن 16 درجة تنزل إلى مقبرة، وحينما وضع كارتر رأسه، في الرابع من نوفمبر 1922، داخل كوة تطل على المقبرة من الداخل، قال: «إنه يوم الأيام كلها». وهكذا، دخل كارتر وفريقه التاريخ بأكبر الاكتشافات على الإطلاق، فقد شق طريقه داخل المقبرة عبر كميات من الكنوز الذهبية التي لم تمس ولم يسبق لها مثيل لملك في العالم. فعلى باب غرفة الدفن، وقف تمثالان خشبيان بالحجم الطبيعي للملك توت عنخ آمون يحرسان الغرفة، وفي الداخل برزت المقبرة الملكية للملك الشاب توت عنخ آمون، قدس أقداس الاكتشافات على مر العصور. وكان الملك توت يقبع داخل أربعة توابيت جنائزية مذهبة، وكان يرتدي قناع الموت الذهبي على وجهه، القناع الذي يزن عشرة كيلو غرامات يصور الملك كإله يحمل العصا والمذبة وتم صقله من الذهب واللازورد والأحجار الكريمة بشكل مذهل من حيث دقة التصميم وبهائه، حتى ليظن أن من قام بصقله هكذا استخدم آلات حديثة وليست أيادي المصريين قبل ثلاثة آلاف عام أو يزيد. ويؤكد بعض الباحثين في التاريخ الفرعونية أن القناع جزء من الطقس الديني الجنائزي المادي والرمزي المرتبط بالموت والبعث وحماية الملك جسمانيا في آن واحد. والقناع مصنوع من الذهب الخالص ويصل ارتفاعه إلى 54 سم ويحتوي على أكثر من تسعة كيلو غرامات من الذهب الخالص. ويتكون من مرحلتين أو طبقتين من الذهب تم الربط بينهما عن طريق الدق وهو منقوش ومصقول ومُرصع بعدد من الأحجار الكريمة. وهكذا، تميز القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين بالاكتشافات الفرعونية المهمة، فضلاً عن فك رموز حجر رشيد، الأمر الذي فتح الباب واسعاً أمام معرفة أسرار الحضارة الفرعونية. وكان من الطبيعي أن تصنع الاكتشافات الفرعونية في مصر في ذلك الوقت جدلاً، وهو لا يزال مستمراً حتى اليوم. وتعليقاً على ذلك، يقول الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل إن «العصر الحضاري المصري القديم هو عصر أعطى ما عنده من خير لورثة له.. قد أعطى قيمة غنية جداً لكنه بحياته وأراءه وأفكاره.. ذهب. ونعجب من البعض الذين لا يدركون أن هذه حضارة أعطت ما عندها ولم يعد في مقدورها أن تعيش، ولم تعد صالحة لأزمنة أخري. قال لي في مرة أندريه مالرو، الأديب الفرنسي الشهير، أثناء تناولنا للغداء في باريس وضمن مناقشة طويلة: إن مصر هي التي اخترعت الأبدية. تحدث المصريون القدماء عن القبر وعن الأبدية أكثر مما تحدثوا عن الحياة. لكن عندما تم اكتشاف توت عنخ آمون والأثار الفرعونية بُهر الشعب المصري وبدأ ينظر إلى الماضي بأكثر مما يجب… وقد دارت مناقشة شعرية بين أحمد شوقي وخليل مطران. خليل مطران، وهو شاعر سوري، وجد أن مصر مأخوذة جداً بهذه الحضارة الفرعونية.. قال: فعظّمَت فوق تاج الذل قاهرها …. وقبّلت دمها في المرمر القاني فهو يعتبر أن ملايين البشر الذين اشتركوا في بناء الهرم لم يأخذوا شيئاً.. وقد سالت دماؤهم على المرمر الجرانيت. وفي قصيدة «أيها النيل» لأمير الشعر أحمد شوقي، أتي الرد على خليل مطران، علماً بأن أحمد شوقي هو بدوره كان من أصل تركي.. لكنه كان يحس بشعور المصريين. إذ يقول أحد أبيات القصيدة: هو من بناء الظلم إلا أنه …. يبيض وجه الظلم منه ويُشرق. هذا البيت من الشعر في واقع الأمر يعبر عن حيرة حضارية في انتماء مصر. لا أريد أن أخوض كثيراً في ذلك على أي حال… أو في الوهم سواء الوهم الفرعوني، أو الوهم الأوروبي وقت الخديوي إسماعيل وكأن القارات من الممكن أن تنتقل من هنا إلى هنا عبر البحر.. وهذا بالطبع لا يصلح… وقد نفترض أن مصر قطعة من أوروبا ثقافياً… لكن أمنياً وجغرافياً واقتصادياً وحياتياً هي هنا.. جزء منها موجود في أفريقيا، متصل بجزء آخر في آسيا وهذا هو الجانب الفاعل من حياتها (راجع: الأستاذ محمد حسنين هيكل، البرنامج التليفزيوني مع هيكل، حلقة بعنوان الوضع السياسي للعرب بعد الحرب العالمية الثانية). المطلب السابع النزعة الوطنية والخصوصية الثقافية يرى بعض الكتاب أنه بعد الحملة الفرنسية.. ابتعدت مصر عن هذا الكل العربي الذي كان لا يزال عثمانياً وقد شارك العالم العربي معها في بناء قوى ناعمة مصرية، لكن مصر كان لديها إحساس بشكل أو آخر أنها مختلفة. ويمكن إرجاع ذلك إلى البعثات التي أرسلها محمد على والتي كان بها رفاعة الطهطاوي… عاد الطهطاوي وألّف كتابه البديع تخليص الإبريز في تلخيص باريس ونقل كل فكر الثورة الفرنسية وكل أفكار فلسفة التنوير والتحرير.. ليصنع بذلك في مصر حالة متميزة ثقافياً وتعليمياً، وقد كان الدور التعليمي الإسلامي موجوداً في الأزهر، تقليدياً.. لكن بدأ رفاعة هذا المعلم الأول يؤسس تياراً جديداً، أيقظ نوازع وطنية. المطلب الثامن النزعة الوطنية والخريطة المصرية خريطة مصر الواردة في مجلّد «وصف مصر» كانت أول خريطة قائمة على التثليث لمصر وسوريا وفلسطين. ويعود الفضل في ظهور هذه الخريطة إلى العقيد الفرنسي بيير جاكوتين الذي قاد بعثة من مهندسي المساحة الفرنسيين لرسم خرائط المنطقة. وقد استخدمت الخريطة كأساس للعديد من خرائط المنطقة خلال معظم القرن التاسع عشر. وقد تم إعدادها في الأصل خلال الحملة الفرنسية على مصر وسوريا (1799-1800). وعلى الرغم من أن تاريخ الخرائط يعود لأعوام 1818 و1826، إلا أنه لم يتم نشرها حتى 1828-1830. وبالاطلاع على خريطة الدولة المصرية، يمكن أن يتبادر إلى الذهن ما أطلق عليه بعض الكتاب والمفكرين السياسيين «وهم الخريطة» أو ما يمكن تسميته تصور انعزال مصر عن المحيط الجغرافي لها. إذ تظهر الخريطة الدولة المصرية محاطة بحدود جغرافية طبيعية متمثلة في البحر الأبيض المتوسط شمالاً والبحر الأحمر شرقاً وبحر الرمال العظيم غرباً. بل إن مناطق التركز السكاني على ضفاف النيل والدلتا تبدو محاطة بكل من الصحراء الشرقية والصحراء الغربية، بما يجعلهم معزولين عن أي اتصال جغرافي مع الشعوب المجاورة. وهكذا، وإذا كانت قراءة الخرائط الجغرافية أساسي وضروري لفهم السياسة، وفقاً لما هو منسوب إلى الرئيس الفرنسي العظيم شارل ديجول، فإن الأوهام التي يمكن أن يقع فيها من يقرأ الخريطة تؤدي إلى نتائج وآثار غير محمودة على توجهاته السياسية. وفي هذا المعنى، يقول الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل إنه وحتى بداية القرن التاسع عشر، لم تكن توجد خريطة لمصر تنشر على نطاق يتعلمه الطلاب في المدارس، وأن الشباب القادم من البعثات التعليمية آنذاك كانوا أمام حدث جديد، حيث كانت هذه أول مرة يطلع فيها شباب مصري متعلم على خريطة مصر. ومن ينظر إلى خريطة مصر، يقع في ذهنه على الفور وهم: أنه أمام كيان منعزل… وأعتقد أن خريطة مصر في حد ذاتها، موحية بأشياء تستوجب العزلة مع الأسف الشديد. حدود عند البحر المتوسط.. وحدود عند البحر الأحمر، حدود جنوباً مع السودان… الوادي في الداخل يكاد يكون محدداً بالضبط في شكل الرقم 7.. ينزل منها خط إلى الجنوب، ومن حولها صحار وبحار تكاد تعزلها عن الباقي كله.


 
 

 

الانتقال السريع           

 

  الموجودون الآن ...
  عدد الزوار 1700 / عدد الاعضاء 62