تتلخص وقائع هذه القضية في أن موظف حكومي يبلغ الـ 59 من عمره تواجد في المكان الخطأ في الوقت الخطأ،
حيث ذهب هذا الموظف (بصفته شخص عادي، غير حكومي) لقضاء حاجة شخصية له في حي مشبوه يملك فيه بيتا شعبيا. وأثناء خروجه من هذا الحي (ونظرا لأن المنطقة منطقة مشبوهة وتتكثف بها الدوريات الأمنية) تم إيقاف هذا الموظف وتفتيشه بواسطة رجال الدورية الأمنية. وأثناء تفتيش الموظف وجد رجال الدورية تحت سيارته كيس بلاستيكي صغير يحتوي على نصف جرام من مادة يشتبه بأنها مخدرة. فأُلقي القبض على الموظف وأحيلت المادة للمعمل الجنائي الذي أثبت أن المادة هي نصف جرام من الهيروين المخدر. ثم حولت القضية إلى المحكمة المستعجلة بواسطة المدعي العام باعتبار أنها قضية حيازة مادة مخدرة. وأحضر المدعي العام رجال الدورية كشهود حال شهدوا بأنهم وجدوا المادة المخدرة (بيد) المدعى عليه (وليس تحت سيارته في تلك المنطقة المشبوهة). فحكمت المحكمة المستعجلة بإدانة المدعى عليه وحولت قضيته للآمارة التي حكمت عليه بالحبس لمدة 3 شهور تقريبا (أي نفس الفترة التي قضاها المدعى عليه ما بين الحبس الاحتياطي وإصدار حكم الادانة وحتى تحويله للآمارة).
انتهى الجزء الأول من هذه القضية عند هذا الحد،
الجزء الثاني أن المدعى عليه (المتهم) موظف حكومي وأي موظف تصدر منه أفعال مخلة بالشرف والأمانة ولو حتى خارج الوظيفة (مثل حيازة المخدرات، بغض النظر عن كميتها) يكون عرضة للجزاء. إلا أن الفصل بقوة النظام لا يتم إلا عند تحقق عدة حالات لا ينطبق أيا منها على المدعى عليه. فأحالت (هيئة الرقابة والتحقيق) -المختصة بقضايا الموظفين الحكوميين- القضية إلى الدائرة التأديبية بديوان المظالم. وطلبت (هيئة الرقابة والتحقيق) الحكم بفصل المدعى عليه. واستندت (هيئة الرقابة والتحقيق) في تسبيب طلب فصل المدعى عليه من وظيفته الحكومية على الحكم الصادر بالإدانة على المدعى عليه من المحكمة المستعجلة.
المشكلة أن المدعى عليه موظف حكومي مثالي وليس عليه أي مخالفات إدارية أو سوابق جنائية، وبينه وبين السن النظامية للتقاعد عدة أشهر فقط. والحكم بفصله من وظيفته سيحرمه من جميع امتيازاته التقاعدية.
فقدمنا لديوان المظالم ردنا التالي:
أصحاب الفضيلة أعضاء الدائرة التأديبية بديوان المظالم بمنطقة ـــــــــــــ
من المدعى عليه: ــــــــــ، الموظف بفرع ـــــــــــ.
ضد المدعيــة: هيئة الرقابة والتحقيق.
الموضوع: رد على قرار الاتهام رقم (ــ) لعام ــ14هـ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
أفيد أصحاب الفضيلة بأنني قضيت أكثر من نصف عمري البالغ 60 سنة في وظيفتي الحكومية وأن سجلي الوظيفي نظيف ومشرف وخال تماما من أي مخالفات تستحق الذكر، وليست لدي أي سوابق جنائية، كما أنني موظف سابق لمدة 6 سنوات قبل 30 سنة تقريبا في شركة ــــــــ. كما أفيد فضيلتكم بأن أعيل زوجة وأسرة و 3 أبناء جميعهم في سن الدراسة، وأرتاد المساجد مع الجماعة و معارفي وجيراني وزملائي في الوظيفة يشهدون بحسن سيرتي وسلوكي.
وعلى هذا الأساس أطلب إعمال المادة/34 من نظام تأديب الموظفين والتي تقرر بأنه: (يُراعى في توقيع العقوبة التأديبية أن يكون اختيار العقوبة متناسباً مع درجة المخالفة مع اعتبار السوابق والظروف المخففة والمشددة الملابسة للمخالفة وذلك في حدود العقوبات المقررة في هذا النظام). فإعمالُ هذه المادة إعمالٌ لحديث أم المؤمنين/ عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم..)، وفسر الشافعي (ذوي الهيئات) بالذين لا يعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة و (العثرات) جمع عثرة والمراد هنا الزلة (سبل السلام، الجزء : 4، الصفحة : 38).
أما بخصوص طلب المدعية فصلي من الوظيفة إعمالا للمادة (32/أولا/5) من نظام تأديب الموظفين، فما هذا إلا تعسفا من المدعية في فهم النظام وتطبيقه حيث لا توجد لدي أي سوابق أو مخالفات كما لا تنطبق على حالتي أيا من الحالات التي يُفصل بها الموظف بقوة النظام لأسباب تأديبية وهو ما يخالف قاعدة (التدرج في العقاب)؛ حيث يسبق عقوبة الفصل 4 عقوبات تأديبية أخرى مختلفة وهي: 1) الإنذار أو 2) اللوم أو 3) الحسم من الراتب أو 4) الحرمان من علاوة دورية واحدة، ولفضيلتكم اتخاذ ما ترونه مناسبا من عقاب بما يضمن هدف العقاب وهو الردع والزجر لا الانتقام ولا التعسف. ولو كان عقاب الفصل الذي تطالب به المدعية لا يتعداني لما وجدت مشكلة في هذا. ولكنني أبلغ الـ 60 من العمر وخدمتي في الدولة 30 سنة تقريبا وفصلي من وظيفتي سيتبعه بالضرورة حرماني من حقوقي التقاعدية. أي أن النتيجة تتعداني لعائلتي.. فما ذنب عائلتي أن يُحرموا من الرزق الحلال والعيش الكريم؟ وإن سلمت جدلا بجرمي وخطئي، فمن ذا الذي لا يخطئ؟ ومن ذا الذي يملك زمام نفسه الأمارة بالسوء عن الزلل؟. ثم إنني لا أملك من حطام الدنيا شئ. فلا أنا أملك بيتا ولا أنا من أصحاب العقارات بل ولا أجيد تجارة.. كما أنني لست شابا، فليس في عمري بقية تذكر. وراتبي، وتقاعدي من بعده، هو مصدر رزقي ورزق عائلتي الوحيد. فلا تعينوا الشيطان عَليّ وعلى عائلتي.
أما بخصوص استناد المدعية لأدلة الاتهام وهي:
1) ما قضى به القرار الشرعي رقم:ـــــ وتاريخ ــ/ــ/1423هـ،
فالقاضي -وإن ثبتت أمامه تهمة حيازة نصف جرام من الهيروين بواسطة العساكر- لم يجد التهمة تستوجب العقوبة القضائية فأحال القضية إلى الأمارة التي حكمت علي بالحبس لمدة 3 أشهر و 6 أيام. ومعنى هذا أنني استوفيت العقوبة ولا يجوز أصلاً توقيع عقوبتين على تهمة واحدة. علما بأن الشهود ما صدقوا في شهادتهم لأن نصف جرام الهيروين التي زعموا أنهم وجودها بيدي قد وجدوها ملقاة تحت سيارتي في تلك المنطقة المشبوهة التي ما ذهبت إليها إلا لمتابعة عمال يصلحون خزان الماء لمنزل والدي رحمه الله. والشهود الذين شهدوا ضدي هم خصومي وهم نفسهم الذين أقدموا دون سبب شرعي على تفتيشي مخالفين بذلك نص المادة/40 من نظام الإجراءات الجزائية الجديد والتي تقرر أنه: (للأشخاص ومساكنهم ومكاتبهم ومراكبهم حرمة تجب صيانتها، وحرمة الشخص تحمي جسده وملابسه وماله وما يوجد معه من أمتعة). كما أنه لم يتم إجراء أي تحليل يثبت احتواء دمي على تلك المادة المخدرة (بحسب الأصول).
2) خروجي على مقتضى الواجب الوظيفي لمخالفتي نص المادة (11/أ)،
فأنا لم أخرج على مقتضيات الواجب الوظيفي، ولا قصرت أبدا في عملي ويشهد على ذلك سجلي الوظيفي النظيف. وإن التهمة، وإن ثبتت ولا حول ولا قوة إلا بالله، تقتضي أن يكون العقاب مناسبا للجرم. فهل نصف جرام من مادة مخدرة وجدت ملقاة تحت سيارتي يكفي لشطب 30 سنة من الخدمة المدنية ولاتخاذ قرار بتشريد عائلتي؟
3) فقدي لشرط الصلاحية للاستمرار في شغل الوظيفة وفقا لنص المادة (4/د) من نظام الخدمة المدنية وهو شرط حسن السيرة والسلوك،
فإن هذا الشرط الذي ذكرته المدعية هو شرط للتعيين في الوظائف وليس شرطا للاستمرار في شغل الوظيفة. بل إن المادة (4/و) من النظام -والمادة نفسها- تُقرر شرط أن يكون طالب التعيين (غير محكوم عليه بحد شرعي أو بالسجن في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة حتى يمضي على انتهاء تنفيذ الحد أو السجن ثلاث سنوات على الأقل) أي أن النظام لا يجد غضاضة في تعيين من سبق الحكم عليه بحد شرعي أو بالسجن شريطة أن تمضي فترة 3 سنوات على انتهاء تنفيذ العقوبة.
أصحاب الفضيلة..
إن التهمة الموجهة تُعتبر بالضرورة من حقوق الله عز وجل و (حقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة) كما تقرر القاعدة الفقهية. بل إن الله جلّ في عُلاه قد قبل توبة من هو أشد جرماً وفتكاً وفساداً وهو المحارب إذا أعلن توبته وأوبته قبل القبض عليه بقوله تعالى: )إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة: 34). كما أن نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم قد تاب على الصحابي الجليل (أبي لبابة) أثناء غزوة بني قريظة كما تاب عن الصحابي البدري (حاطب ابن أبي بلتعة) أثناء فتح مكة رغم ثبوت تهمتهما بما يُصطلح عليه اليوم بجريمة (الخيانة العظمى). وكذلك النظام قد قبل توبة من يريد التعيين في الوظائف الحكومية وفق ما تقرر الفقرات (و، ز) من المادة /4 من نظام الخدمة المدنية.
أفلا تُقبل توبتي (عن جرم لم ارتكبه)؟..
أفلا يكفيني ما لقيت من حبس و هم وتشويه سمعة لحقت بي؟..
ولو حُكم بفصلي من عملي وما سيترتب عليه من ضرر يعود على عائلتي، فهل أخرج بعدها صائلا على الناس؟
أختم ردي بما أخرجه البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كنت مع عمر في حج أو عمرة فإذا نحن براكب، فقال عمر: (أرى هذا يطلبنا). فجاء الرجل فبكى، قال عمر: (ما شأنك؟ إن كنت غارما أعنّاك، وإن كنت خائفا آمنّاك، إلا أن تكون قتلت نفسا فتقتل بها، وإن كنت كرهت جوار قوم حولّناك عنهم).. قال: (إني شربت الخمر، وأنا أحد بني تيم، وإن أبا موسى جلدني وحلقني وسوّد وجهي وطاف بي الناس وقال: "لا تجالسوه ولا تواكلوه"، فحدثتُ نفسي بإحدى ثلاث: إما أن اتخذ سيفا فأضرب به أبا موسى، وإما أن آتيك فتحولني إلى الشام فإنهم لا يعرفونني، وإما أن ألحق بالعدو فآكل معهم وأشرب)... فبكى عمر وقال: (ما يسرني أنك فعلت.. وإن لعمر كذا وكذا، وإني كنت لأشرب الناس لها في الجاهلية، وإنها ليست كالزنا).. وكتب عمر إلى أبي موسى: (سلام عليك.. أما بعد.. فإن فلانا ابن فلان التيمي أخبرني بكذا وكذا، و أيمُ الله.. إني إن عُدتَ لأُسوّدن وجهكَ و لأطوفن بكَ في الناس.. فإن أردتَ أن تعلمَ حقَّ ما أقولُ فـعُد!). فأمر الناس أن يجالسوه ويواكلوه فإن تاب فاقبلوا شهادته، وحمله فأعطاه مائتي درهم، أ هـ. ومن هذا الأثر نستخلص وجوب مناسبة العقوبة للذنب بما يكفي للردع والزجر ومتى ما تحققت هذه العلة في العقوبة لم يجز الزيادة عليها بحيث تصير تعدياً.
أصحاب الفضيلة..
إني أسألكم بالله أن تقيلوا عثرتي وألا تعينوا الشيطان علي وعلى عائلتي، و (لأن يخطئ الحاكم في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة). وإن بيني وبين السن النظامية للتقاعد أشهر معدودة، وعلى هذا يتعين مراعاة ظروفي ومن أعولهم، إذ إن فصلي من وظيفتي سيترتب عليه حرماني من حقوقي التقاعدية ونزولي وعائلتي إلى رصيف الفقراء وتشرد أولادي وما يترتب على ذلك من تبعات خطيرة تُخرج العقوبة التي تطالب بها المدعية عن غرضها الأصلي وهو الردع والزجر.. إلى أن تصل حَداً يصدق معه وصف الفقهاء بقولهم: (متى ما تجاوز الحاكم بالعقوبة التعزيرية حد الردع والزجر فانه يضمن).
وعليه ألتمس رد دعوى المدعية اكتفاء بما تعرضت له من عقوبة الحبس لمدة 3 شهور و 6 أيام. أو الحكم علي بإحدى العقوبات المنصوص عليها في المادة (32/ أولا) من نظام تأديب الموظفين باستثناء الفصل.
ووفقكم الله لما يحب ويرضى..،،
مقدمه الموظف/ ـــــــــــ
الحكم: حكمت الدائرة التأديبية بديوان المظالم على المدعى عليه بالحرمان من علاوة دورية واحدة، وإبقاءه على رأس العمل. و أبدى الطرفان قناعتهما بالحكم.